يُعَدّ صحيحا البخاري ومسلم أعظم كتب الحديث النبوي وأصحّها بعد كتاب الله تعالى، غير أنّ بعض الطاعنين حاولوا النيل من مكانة الصحيحين عبر التشكيك في روايتهما عن بعض الرواة الذين ضُعِّفوا أو وُصِفوا بسوء الحفظ أو كثرة الأوهام. وهذه الشبهة قديمة، وقد ردّ عليها الأئمة من أهل العلم، مبينين أنّ رواية البخاري ومسلم عن بعض هؤلاء لم تكن من باب الاعتماد المطلق، وإنما لاعتبارات دقيقة، مثل كون الراوي ثقة عندهما وإن ضُعِّف عند غيرهما، أو رواية الحديث في باب المتابعات والشواهد لا في الأصول، أو الأخذ عمّن اختلط قبل اختلاطه. كما بيّن الأئمة أنّ الصحيحين لم يودعا فيهما ما يُردّ أو ما لا تقوم به الحجّة، بل اقتصرا على ما هو صحيح أو حسن معتبر.

قال ابن الصلاح في بيان سبب وجود رواة ضعفاء في صحيح مسلم، ومثله يقاس على صحيح البخاري:

«عاب عائبون مسلماً بروايته في صحيحه عن جماعة من الضعفاء أو المتوسطين الواقعين في الطبقة الثانية الذين ليسوا من شرط الصحيح أيضاً.

والجواب أن ذلك لأحد أسباب لا معاب عليه معها:

 أحدها: أن يكون ذلك فيمن هو ضعيف عند غيره ثقة عنده.

الثاني: أن يكون ذلك واقعاً في الشواهد والمتابعات لا في الأصول، وذلك بأن يذكر الحديث أولاً بإسناد نظيف رجاله ثقات ويجعله أصلاً، ثم يتبع ذلك بإسناد آخر أو أسانيد فيها بعض الضعفاء على وجه التأكيد بالمتابعة أو لزيادة فيه.

 الثالث: أن يكون ضعف الضعيف الذي احتج به طرأ بعد أخذه عنه باختلاط حدث عليه، غير قادح فيما رواه من قبل في زمان سداده واستقامته»

(صيانة صحيح مسلم ص96).

وقال الحافظ الحازمي:

«وقد قسم الرواة إلى خمس طبقات وجعل الطبقة الأولى مقصد البخاري، ويخرج أحياناً من أعيان الطبقة الثانية.

فإن قيل: إذا كان الأمر على ما مهّدت وأن الشيخين لم يودعا كتابيهما إلا ما صح، فما بالهما خرجا حديث جماعة تُكُلِّم فيهم نحو فليح بن سليمان وعبد الرحمن بن عبد الله بن دينار وإسماعيل بن أبي أويس عند البخاري، ومحمد بن إسحاق وذويه عند مسلم؟

 قلت: أما إيداع البخاري ومسلم كتابيهما حديث نفر نُسبوا إلى نوع من الضعف فظاهر، غير أنه لم يبلغ ضعفهم حداً يُرد به حديثهم» (شروط الأئمة الخمسة ص69).

ويقول الحافظ الذهبي:

«فما في الكتابين يعني الصحيحين بحمد الله رجل احتج به البخاري أو مسلم في الأصول ورواياته ضعيفة، بل حسنة أو صحيحة.

ومن خرج له البخاري أو مسلم في الشواهد والمتابعات ففيهم مَن في حفظه شيء وفي توثيقه تردد» (الموقظة ص79).

وقال ابن القيم:

 في الرد على من عاب على مسلم إخراج أحاديث الضعفاء سيئي الحفظ كمطر الوراق وغيره، ومثله يُقاس على البخاري:

«ولا عيب على مسلم في إخراج حديثه لأنه ينتقي من أحاديث هذا الضرب ما يعلم أنه حفظه، كما يطرح من أحاديث الثقة ما يعلم أنه غلط فيه، فغلط في هذا المقام من استدرك عليه إخراج جميع أحاديث الثقة، ومن ضعف جميع أحاديث سيئي الحفظ»

(زاد المعاد 1/364).

وقال الحافظ ابن حجر:

«وأما الغلط فتارة يكثر في الراوي وتارة يقل، فحيث يوصف بكونه كثير الغلط يُنظر فيما أخرج له، إن وُجد مروياً عنده أو عند غيره من رواية غير هذا الموصوف بالغلط عُلم أن المعتمد أصل الحديث لا خصوص هذه الطريق، وإن لم يوجد إلا من طريقه فهذا قادح يوجب التوقف فيما هذا سبيله، وليس في الصحيح بحمد الله من ذلك شيء. وحيث يوصف بقلة الغلط كما يقال: سيّئ الحفظ، أو له أوهام، أو له مناكير، وغير ذلك من العبارات: فالحكم فيه كالحكم في الذي قبله، إلا أن الرواية عن هؤلاء في المتابعات أكثر منها عند المصنف من الرواية عن أولئك»

(هدي الساري ص381).

ولهذا يرى الحافظ ابن حجر أن تعريف الحديث الصحيح يكون على النحو التالي:
«هو الحديث الذي يتصل إسناده بنقل العدل التام الضبط أو القاصر عنه إذا اعتضد بمثله إلى منتهاه، ولا يكون شاذاً ولا معللاً. وإنما قلت ذلك لأنني اعتبرت كثيراً من أحاديث الصحيحين فوجدتها لا يتم عليها الحكم بالصحة إلا بذلك يعني بتعدد الطرق»

(النكت على ابن الصلاح 1/86).