يُعَدُّ الإمام البخاري رحمه الله من أعظم أئمة الحديث وأوثقهم رواية وضبطًا، وقد أجمعت الأمة على أن كتابه "الجامع الصحيح" أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى. إلا أن بعض الطاعنين – ومنهم الشيعة الرافضة – حاولوا التشويش على مكانة صحيح البخاري، فزعموا أن فيه رواية بالمعنى، بل واستشهدوا بقول الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" أنه: "من نوادر ما وقع في البخاري أن يخرج الحديث تامًا بإسناد واحد بلفظين". وظنوا أن ذلك يقدح في وثاقة الصحيح. وهذه الشبهة قديمة متجددة، نقلها بعضهم في مؤلفاتهم ومواقعهم الإلكترونية، محاولين بذلك إسقاط الثقة عن البخاري وكتابه. في هذا المقال نعرض أصل هذه الشبهة، ثم نُبيّن الجواب عليها بالدليل والتحقيق.
مقالات السقيفة ذات صلة: |
رواية: سماك بن حرب نزل إلى الفرات وأغمس رأسه فردّ بصره الفرق بين الكرامة عند أهل السنة والولاية التكوينية عند الشيعة |
احتج الشيعة بقول الحافظ ابن حجر:
«من نوادر ما وقع في البخاري أنه يخرج الحديث تامًّا بإسناد واحد بلفظين» (فتح الباري 10/227).
ثم قالوا: كيف أُطلق اسم "الصحيحين" على البخاري ومسلم؟ وزعموا أن مما يسلب الاطمئنان والاعتماد على صحيح البخاري أن قسمًا من أحاديثه رُويت بالمعنى، ولم ينقلها بنفس اللفظ حسبما سمعها من شيوخه.
واستشهدوا بما نقله الخطيب البغدادي في "تاريخه" والحافظ ابن حجر في "مقدمة الفتح" عن قول البخاري: «رُبَّ حديث سمعته بالبصرة كتبته بالشام، ورب حديث سمعته بالشام كتبته بمصر. قيل له: يا أبا عبد الله بكماله؟ فسكت». كما استدلوا بقول الحافظ عند حديث سحر النبي صلى الله عليه وسلم: «وهذا من نوادر ما وقع في البخاري أنه يخرج الحديث تامًّا بإسناد واحد بلفظين» (فتح الباري 10/227).
والجواب:
ليس في عبارة البخاري أي علاقة بموضوع الرواية بالمعنى، بل غاية الأمر أنه كان يسمع الحديث في موضع، ثم يكتبه في موضع آخر. ومجرد سكوته لا يعني أنه رواه بالمعنى. وأقصى ما يدل عليه كلامه جواز الاختصار في الحديث بذكر بعضه دون بعض، وهو منهج معروف في كتابه، إذ كان يقطع الحديث الواحد في عدة أبواب، مقتصرًا في كل باب على ما يناسبه.
مقالات السقيفة ذات صلة: |
شبهة حول رواية بن القيم الذي يقول بفناء النار الكنجي الرافضي: خيانة للتتار وفضيحة في كتب التاريخ |
وأما ما أورده الحافظ ابن حجر، فقد ساقه عند الكلام على حديث سحر النبي صلى الله عليه وسلم، إذ رواه البخاري مرَّة عن شيخه إبراهيم بن موسى بلفظ الجزم: «حتى إذا كان ذات يوم» من غير شك، ورواه بلفظ آخر فيه شك: «حتى إذا كان ذات يوم أو ذات ليلة». فظن الحافظ أولًا أن الشك من البخاري، ثم ظهر له بالتحقيق أن الشك إنما هو من شيخ شيخه عيسى بن يونس.
ولهذا قال ابن حجر:
«فيُحمل الجزم الماضي على أن إبراهيم بن موسى شيخ البخاري حدثه به تارة بالجزم، وتارة بالشك، ويؤيده ما سأذكره من الاختلاف عنه». ثم عقب بقوله: «وهذا من نوادر ما وقع في البخاري أن يخرج الحديث تامًّا بإسناد واحد بلفظين».
فالمراد أن البخاري نقل الحديث عن شيخه على الوجهين: مرة بالجزم، ومرة مع الشك، ولم يكن ذلك من تصرفه هو ولا من رواية بالمعنى، وإنما هو إثباتٌ لما سمعه من شيوخه بلفظيهما. ومن هنا يتبين أن هذه الشبهة مبنية على بتر النصوص وخطف الكلام من غير تثبت، والافتراء على الإمام البخاري والحافظ ابن حجر، ولا حجة فيها البتة.