صحيح الإمام مسلم يُعَدّ من أعظم كتب الحديث وأدقّها بعد صحيح البخاري، وهو من المصادر التي تلقتها الأمة بالقبول جيلاً بعد جيل. غير أن بعض النقاد من أئمة الحديث ــ مثل أبي زرعة الرازي ــ وجهوا نقدًا لبعض اختيارات الإمام مسلم في صحيحه، معتبرين أن إدخال بعض الرواة المنتقدين يفتح الباب للمتشككين والبدع. وقد جاء رد الإمام مسلم على هذه الانتقادات واضحًا، مبينًا أن روايته عن هؤلاء لم تكن اعتمادًا عليهم في ذاتهم، بل لأن أصل الحديث محفوظ من طريق الثقات، وأنه أورد رواياتهم من باب العلو في الإسناد. هذا المقال يعرض نص النقد، ثم رد الإمام مسلم، ثم يبين الموقف العلمي المتوازن الذي تبناه علماء الحديث بعد ذلك، بما يكشف عن دقة منهج الإمام مسلم وسلامة مقصده.

النص

قال أبو زرعة عن صحيح مسلم والبخاري:

«هؤلاء قوم أرادوا التقدم قبل أوانه، فعملوا شيئًا يتشوفون به، ألَّفوا كتابًا لم يُسبقوا إليه ليقيموا لأنفسهم رياسة قبل وقتها. وأتاه ذات يوم ـ وأنا شاهد ـ رجل بكتاب الصحيح من رواية مسلم، فجعل ينظر فيه، فإذا حديث عن أسباط بن نصر، فقال أبو زرعة: ما أبعد هذا من الصحيح! يدخل في كتابه أسباط بن نصر! ثم رأى في كتابه قطن بن نسير، فقال لي: وهذا أطمّ من الأول! قطن بن نسير وصل أحاديث عن ثابت جعلها عن أنس. ثم نظر فقال: يروي عن أحمد بن عيسى المصري في كتابه الصحيح. قال لي أبو زرعة: ما رأيت أهل مصر يشكّون في أن أحمد بن عيسى...» وأشار أبو زرعة إلى لسانه كأنه يقول: الكذب.

 

ثم قال لي: «تُحدّث عن أمثال هؤلاء وتترك محمد بن عجلان ونظراءه، وتطرق لأهل البدع علينا فيجدوا السبيل بأن يقولوا للحديث إذا احتجّ به عليهم: ليس هذا في كتاب الصحيح!» ورأيته يذم من وضع هذا الكتاب ويؤنبه.

فلما رجعت إلى نيسابور في المرة الثانية ذكرت لمسلم بن الحجاج إنكار أبي زرعة عليه، وروايته في كتاب الصحيح عن أسباط بن نصر وقطن بن نسير وأحمد بن عيسى، فقال لي مسلم:

«إنما قلتُ: صحيح، وإنما أدخلتُ من حديث أسباط وقطن وأحمد ما قد رواه الثقات عن شيوخهم، إلا أنه ربما وقع إليّ عنهم بارتفاع، ويكون عندي من رواية من هو أوثق منهم بنزول، فأقتصر على أولئك، وأصل الحديث معروف من رواية الثقات».

وقدم مسلم بعد ذلك إلى الري، فبلغني أنه خرج إلى أبي عبد الله محمد بن مسلم بن واره، فجفاه وعاتبه على هذا الكتاب، وقال له نحو ما قاله لي أبو زرعة: «إن هذا تطرّق لأهل البدع علينا».

 فاعتذر إليه مسلم، وقال:

«إنما أخرجتُ هذا الكتاب وقلت: هو صحاح، ولم أقل إن ما لم أخرجه من الحديث في هذا الكتاب ضعيف، ولكني إنما أخرجت هذا من الحديث الصحيح ليكون مجموعًا عندي وعند من يكتبه عني، فلا يرتاب في صحتها. ولم أقل إن ما سواه ضعيف أو نحو ذلك مما اعتذرت به». فقبل عذره وحدثه.

(تاريخ بغداد 4/272).

وهذا الجرح من أبي زرعة مفسَّر، فسره هو بنفسه وبيّن سبب إيراده، وهو إخراجه لبعض هؤلاء الرواة المنتقدين الذين ذكر بعضهم. وقد ذكر مسلم تبرير ذلك والرد عليه بعد هذا الكلام. ولهذا لم ينقله المحرّف لأنه لا يتفق مع هواه وما أراد.

وهو أحد الوجوه التي ذكرها الإمام ابن الصلاح في كتابه (صيانة صحيح مسلم 1/96)، ونقلها عنه النووي في شرحه (1/24)، والتي وجَّه فيها إخراج الإمام مسلم لبعض الضعاف أو المتوسطين. وهو أن يعلو بالشخص الضعيف إسناده، وهو عنده من رواية الثقات نازل، فيقتصر على العالي، ولا يطيل بإضافة النازل إليه، مكتفيًا بمعرفة أهل الشأن في ذلك. وهذا العذر قد روي عن مسلم تنصيصًا، حيث قال عندما ذكر له إنكار أبي زرعة:

«إنما أدخلتُ من حديث أسباط وقطن وأحمد ما قد رواه الثقات عن شيوخهم، إلا أنه ربما وقع إليّ عنهم بارتفاع، ويكون عندي من رواية أوثق منهم بنزول، فأقتصر على ذلك، وأصل الحديث معروف من رواية الثقات».

ولا أدل على أن الصواب كان مع الإمام مسلم أن الخطيب نفسه الذي نقل هذه العبارة وثَّق أحمد بن عيسى، ولم يلتفت إلى قول من تكلم فيه، فكان مع الإمام مسلم. فلماذا لم يورد الكاتب كلام الخطيب الذي يقول فيه بعد ذلك:
«قلتُ: وما رأيتُ لمن تكلّم في أحمد بن عيسى حجة توجب ترك الاحتجاج بحديثه».

وعبارة الذهبي في (الميزان) بعد إيراده لكلام أبي زرعة نفسه:

«قلت: احتج به أرباب الصحاح، ولم أرَ له حديثًا منكرًا، فأورده».

والثابت عن مسلم رحمه الله قوله:

«عرضت كتابي هذا على أبي زرعة الرازي، فكلّ ما أشار أنّ له علة تركته، وكل ما قال إنه صحيح وليس له علة أخرجته».