تُعَدّ مسألة إمكان الحوادث وتسلسلها من أعقد القضايا الكلامية والفلسفية التي خاض فيها علماء الإسلام قديماً وحديثاً، وتنازع فيها المتكلمون والفلاسفة، حتى صارت ميداناً للجدل العقلي والشرعي. وقد تعلق بها بحث جوهري هو: هل الحوادث ممكنة في نوعها أزلاً، أم ممتنعة؟ وهل القول بوجود حوادث لا أول لها يفضي إلى القول بقدم العالم، أم يمكن الجمع بين دوام فاعلية الله تعالى وحدوث كل مخلوق بعينه؟
لقد تصدى شيخ الإسلام ابن تيمية لهذه المعضلة ببيان شافٍ، فأثبت أن العقل الصريح لا يتعارض مع النقل الصحيح، وأن الله تعالى هو القديم الأزلي وحده، وما سواه حادث مخلوق كائن بعد أن لم يكن. كما قرر أن تسلسل الحوادث في نوعها لا يقتضي قدم شيء من المخلوقات، بل كل مخلوق مسبوق بالعدم، وإنما الدائم هو فعل الله سبحانه وتعالى الذي لم يزل فعالاً لما يريد.
وقد اختلفت أنظار العلماء في هذه المسألة: فمنهم من رأى أن القول بتسلسل الآثار غير محال، ومنهم من منعه وعدّه مخالفاً للأصول. بينما ذهب بعض المحققين من أهل السنة – كالأسنوي، والدواني، ومحمد بخيت المطيعي – إلى أن جواز التسلسل في الآثار لا يضر العقيدة، ما دام كل فرد من أفراد المخلوقات حادثاً بعد عدم، حتى لو كان النوع مستمراً متعاقباً لا ينقطع.
ومن جهة أخرى، نجد علماء الإمامية ومن تبعهم قد خاضوا في هذه القضية بما يثبت أنهم لم يسلموا من القول بأزلية الفيض الإلهي ودوام الخلق، وإن حاولوا الجمع بينه وبين القول بحدوث كل فرد من أفراد العالم. وقد نقل بعضهم – ككمال الحيدري – صراحةً اعتقاد صدر المتألهين في دوام الخلق والأثر منذ الأزل، وهو ما يكشف الاضطراب في مذهبهم.
إن هذا البحث ليس مجرد نقاش فلسفي تجريدي، بل هو من صميم العقيدة الإسلامية؛ لأنه متعلق بتوحيد الله تعالى في الأزلية والقدم، وبإثبات أن الخالق وحده هو القديم، وأن كل ما عداه حادث محتاج إليه. ومن هنا تأتي أهمية تحرير محل النزاع، وبيان الموقف الحق الذي دل عليه الكتاب والسنة وأقرّه جمهور المسلمين من السلف والخلف.
أسئلة:
هل نوع الحوادث ممكن، أم ممتنع أزلاً؟
فإن قلتم: ممتنع، سألناكم: هل أصبح ممكناً بعد أن كان ممتنعاً؟!
وإن قلتم: بل هو ممكن، فنقول لكم: لماذا أنكرتم على شيخ الإسلام القائل بالإمكان؟!!!
وقد جاءت نصوص كثيرة صريحة من كلام شيخ الإسلام على تفرد الله تعالى بالأزلية والقدم، وأن المخلوق حادث بعد أن لم يكن. وبما أن النقول كثيرة جداً، فسوف أقتصر على بعضها:
قال شيخ الإسلام:
(ومن سلك الطرق النبوية السامية علم أن العقل الصريح مطابق للنقل الصحيح، وقال بموجب العقل في هذا وفي هذا، وأثبت ما أثبتته الرسل من خلق السماوات والأرض في ستة أيام، وأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، ولم يجعل شيئاً سوى الله قديماً معه، بل كل ما سواه محدث كائن بعد أن لم يكن)
الصفدية – أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية – ج 1 ص 147
وقال أيضاً: فإن نفس كون الفاعل فاعلاً يقتضي حدوث الفعل إما نوعاً وإما عيناً، وأما فعل ليس بحادث لا نوعه ولا عينه بل هو لازم لذات الفاعل فليس هو فعلاً أصلاً، ولهذا كان نفس علم الخلق بأن الشيء مخلوق يوجب علمهم بأنه مسبوق بالعدم، إذ لا يعقل مخلوق مقارن لخالقه لازم لم يزل معه»
الصفدية – أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية – ج 2 ص 149
وقال ايضا: " وَأَمَّا السَّلَفُ فَقَوْلُهُمْ إِنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا، وَإِنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ. (* وَكَذَلِكَ قَالُوا بِلُزُومِ الْفَاعِلِيَّةِ، وَنَقَلُوا عَنْ جَعْفَرِ الصَّادِقِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ بِدَوَامِ الْفَاعِلِيَّةِ الْمُتَعَدِّيَةِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُحْسِنًا بِمَا لَمْ يَزَلْ فِيمَا لَمْ يَزَلْ إِلَى مَا لَمْ يَزَلْ، كَمَا نَقَلَ ذَلِكَ الثَّعْلَبِيُّ عَنْهُ بِإِسْنَادِهِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا﴾ [سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ: 115]، مَعَ قَوْلِ جَعْفَرٍ وَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْمِلَلِ وَجَمَاهِيرِ الْعُقَلَاءِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْمِلَلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّ مَا سِوَاهُ مُحْدَثٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، لَيْسَ مَعَ اللَّهِ شَيْءٌ مِنَ الْعَالَمِ قَدِيمٌ بِقِدَمِ اللَّهِ)
" منهاج السنة النبوية – ابو العباس احمد بن عبد الحليم بن تيمية – ج 2 ص 246 – 247
وقال ايضا: " وعلى هذا فكل ما سوى الرب حادث كائن بعد أن لم يكن وهو سبحانه المختص بالقدم والأزلية فليس في مفعولاته قديم وإن قدر أنه لم يزل فاعلا وليس معه شيء قديم بقدمه بل ليس في المفعولات قديم البتة بل لا قديم إلا هو سبحانه وهو وحده الخالق لكل ماسواه وكل ما سواه مخلوق كما قال تعالى: ﴿ الله خالق كل شيء ﴾ "
درء تعارض العقل والنقل - احمد بن عبد الحليم بن تيمية –ج 4 ص 227
مقالات السقيفة ذات صلة |
رواية: سماك بن حرب نزل إلى الفرات وأغمس رأسه فردّ بصره |
وقال: " أنه لو قدر تسلسل المفعولات كتسلسل الأفعال فما من مفعول ولا فعل إلا وهو حادث كائن بعد أن لم يكن، فليس مع الله في الأزل شيء من المفعولات ولا الأفعال، إذ كان كل منهما حادثاً بعد أن لم يكن، والحادث بعد أن لم يكن لا يكون مقارناً للقديم الذي لم يزل، وإذا قيل: (إن نوع الأفعال أو المفعولات لم يزل) فنوع الحوادث لا يوجد مجتمعاً، لا يوجد إلا متعاقباً، فإذا قيل: (لم يزل الفاعل يفعل، والخالق يخلق) - والفعل لا يكون إلا معيناً، والخلق والمخلوق لا يكون إلا معيناً - فقد يفهم أن الخالق للسماوات والإنسان لم يزل يخلق السماوات والإنسان، والفاعل لذلك لم يزل يفعله، وليس كذلك، بل لم يزل الخالق لذلك سيخلقه، ولم يزل الفاعل لذلك سيفعله، فما من مخلوق من المخلوقات ولا فعل من الأفعال إلا والرب تعالى موصوف بأنه لم يزل سيفعله، ليس موصوفاً بأنه لم يزل فاعلاً له خالقاً له، بمعنى أنه موجود معه في الأزل "
درء تعارض العقل والنقل - احمد بن عبد الحليم بن تيمية – ج 2 ص 267
وقال في منهاج السنة:
" وَهَذَا بُرْهَانٌ مُسْتَقِلٌّ فِي أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ مُحْدَثٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا، فَسُبْحَانَ مَنْ تَفَرَّدَ بِالْبَقَاءِ وَالْقِدَمِ، وَأَلْزَمَ مَا سِوَاهُ بِالْحُدُوثِ عَنِ الْعَدَمِ "
منهاج السنة النبوية – ابو العباس احمد بن عبد الحليم بن تيمية – ج 1 ص 376
وقال ايضا: " جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ مَخْلُوقٌ حَادِثٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، وَهُوَ الْمُخْتَصُّ بِالْقِدَمِ وَالْأَزَلِيَّةِ "
منهاج السنة النبوية – ابو العباس احمد بن عبد الحليم بن تيمية – ج 2 ص 121
وقال في رده على ابن المطهر:
" فَقَوْلُ الْقَائِلِ: الْقَدِيمُ الْأَزَلِيُّ وَاحِدٌ، وَإِنَّ اللَّهَ مَخْصُوصٌ بِالْأَزَلِيَّةِ وَالْقِدَمِ، لَفْظٌ مُجْمَلٌ. فَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّ اللَّهَ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ صِفَاتِهِ اللَّازِمَةِ لَهُ هُوَ الْقَدِيمُ الْأَزَلِيُّ دُونَ مَخْلُوقَاتِهِ، فَهَذَا حَقٌّ"
منهاج السنة النبوية – ابو العباس احمد بن عبد الحليم بن تيمية – ج 2 ص 123
وقال ايضا: " والأفعال نوعان لازمة ومتعدية فالفعل اللازم لا يقتضي مفعولا والفعل المتعدي يقتضي مفعولا فإن لم يكن الدائم إلا الأفعال اللازمة وأما المتعدية فكانت بعد أن لم تكن لم يلزم وجود ثبوت شيء من المفعولات في الأزل وإن قدر أن الدائم هو الفعل المتعدي أيضا والمستلزم لمفعول فإذا كان الفعل يحدث شيئا بعد شيء فالمفعول المشروط به أولا بالحدوث شيئا بعد شيء لأن وجود المشروط بدون الشرط محال فثبت أنه على كل تقدير لا يلزم أن يقارنه في الأزل لا فعل معين ولا مفعول معين فلا يكون في العالم شيء يقارنه في الأزل " الصفدية - ابو العباس احمد بن عبد الحليم بن تيمية - ج 2 ص 23
وقال ايضا: " فالذي يفهمه الناس من هذا الكلام أن كل ما سوى الله مخلوق حادث كائن بعد أن لم يكن وأن الله وحده هو القديم الأزلي ليس معه شيء قديم تقدمه بل كل ما سواه كائن بعد أن لم يكن فهو المختص بالقدم كما اختص بالخلق والإبداع والإلهية والربوبية وكل ما سواه محدث مخلوق مربوب عبد له
وهذا المعنى هو المعروف عن الأنبياء وأتباع من المسلمين واليهود والنصارى وهو مذهب أكثر الناس غير أهل الملل من الفلاسفة وغيرهم "
درء تعارض العقل والنقل - احمد بن عبد الحليم بن تيمية - ج 1 ص 72
ولقد قال بعض علماء المذاهب بعدم المحذور في القول بالتسلسل، او بحوادث لا اول لها، قال العلامة محمد بخيت المطيعي: " قال الأسنوى " الثاني أن المحال من التسلسل إنما هو التسلسل في المؤثرات والعلل وأما التسلسل في الآثار فلا نسلم إلى آخره " كلام جيد واما قول الاصفهاني وفيه نظر لأنه يلزم منه تجويز حوادث لا أول لها وهو باطل على رأينا فنقول لا يلزم كونه باطلاً على رأيه أنه باطل في الواقع ونفس الأمر فإنه لغاية الآن لم يقم دليل على امتناع التسلسل في الآثار الموجودة في الخارج وان اشتهر أن التسلسل فيها محال ولزوم حوادث لا أول لها لا يضر العقيدة إلا إذا قلنا لا أول لها بمعنى لا أول لوجودها وهذا مما لم يقل به أحد بل الكل متفق على ان ما سوى الله تعالى مما كان أو يكون حادث أي موجود بعد العدم بقطع النظر عن أن تقف آحاده عند حد من جانبي الماضي والمستقبل أو لا تقف عند حد من جانبهما أو من أحدهما الا ترى ان الإجماع قام على أن نعيم الجنة لا يتناهى ولا يقف عند حد في المستقبل وبعد كونه حادثاً بمعنى أنه موجود بعد العدم لا يضرنا أن نقول لا آخر له بمعنى عدم انقطاع آحاده وعدم وقوفها عند حد ولو قلنا أنه لا آخر لها بمعنى أن البقاء واجب لها لذاتها لكان كفرا، فكذلك من جانب الماضي نقول حوادث لا أول لها بمعنى أنها لا تقف آحادها عند حد تنتهي اليه وكل واحد منها موجود بعد العدم ولكنها لا تتناهى في دائرة ما لا يزال ولو قلنا أنها لا أول لوجودها ولا افتتاح له لكان ذلك قولاً بقدمها وذلك كفر وعليك بكتابنا القول المفيد وحواشي الخريدة "
سلم الوصول لشرح نهاية السول – محمد بخيت المطيعي الحنفي مفتي الديار المصرية في عصره – ج 2 ص 103
فالاسنوي شافعي المذهب، ورأى ان التسلسل في الاثار غير محال، ثم نجد بعده كلام العلامة محمد بخيت المطيعي الحنفي يقول بعدم الضرر بجواز القول بحوادث لا اول لها مع الاعتقاد بانها مسبوقة بالعدم, ثم نراه يقارن بين الازل، والابد ويستشهد بعدم تناهي نعيم الجنة وغيرها دليل على صحة ما قال به.
وقد نقل اسماعيل الكلنبوي متن شرح العقائد العضدية للدواني، فنقل فيه كلام جلال الدين الدواني، حيث قال: " وأنت مما سبق خبير أنه يمكن صدور العالم مع حدوثه، وعلى هذا الوجه، فلا يلزم القدم الشخصي في شيء من أجزاء العالم، بل القدم الجنسي بأن يكون فرد من افراد العالم لا يزال على سبيل التعاقب موجوداً "
حاشية الكلنبوي على شرح العقائد العضدية للدواني – اسماعيل الكلنبوي – ج 1 ص 85
فهذا الدواني الشافعي امام عصره في العقليات كما وصفه الشوكاني في البدر الطالع، فتراه مصرحا بالقدم الجنسي، ثم يفسره بقوله بأن يكون فرد من افراد العالم لا يزال على سبيل التعاقب موجودا.
وقد اعترف كمال الحيدري وهو من الامامية على ان صدر المتألهين، وهو احد علماء الامامية قائل بأن الله تعالى له خلق في الازل، حيث قال: " ومن هنا فإن صدر المتألهين يؤمن من جهة بأن الله تعالى دائم الفيض وأن من الازل كان له فعل، وكان له علم، وكان له خلق، ومن جهة اخرى لا يتنافى هذا مع القول بأن كل جزء جزء حادث زماني، لأنه في كل آن آن هو غيره في الآن السابق، وغيره في الآن اللاحق "
فلسفة صدر المتألهين - كمال الحيدري - ص 204