قضية النسيان عند الأنبياء عليهم السلام من المسائل العقدية التي أثارت نقاشًا واسعًا بين العلماء والمفسرين، خاصة عند الحديث عن مدى انسجام هذه الظاهرة مع مبدأ العصمة. فقد جاء في القرآن الكريم ذكر نسيان بعض الأنبياء، مثل موسى عليه السلام حين نسي الوعد أو الحوت في قصة الخضر، وآدم عليه السلام حين نسي العهد الذي أخذه الله عليه. وقد علّق المفسرون من الشيعة كالطبرسي والطباطبائي والشيرازي على هذه المواضع ببيانات مختلفة، فبعضهم حمل النسيان على حقيقته في الأمور الدنيوية، وبعضهم فسّره بمعنى الترك. كما نقلت كتب الحديث الإمامية روايات صريحة تثبت نسيان آدم عليه السلام، بل وتربط نسيان الإنسان عامة بنسيانه. ومن هنا يظهر التباين بين القول بالعصمة المطلقة للأنبياء عند الإمامية، وبين ما تثبته نصوصهم ورواياتهم من وقوع النسيان، وهو ما يفتح الباب لمناقشة أعمق حول حدود العصمة وحقيقتها في الفكر الإمامي مقارنة بما جاء في القرآن الكريم.

لقد ورد النسيان لبعض الانبياء عليهم السلام في القران الكريم، وكذلك في روايات الامامية.

قال الله تعالى حاكيا عن موسى عليه السلام: ﴿قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا﴾ [الكهف: 73].

 قال الطباطبائي:

 قوله تعالى: ﴿قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا﴾ [الكهف: 73].

 الرهق: الغثيان بالقهر والارهاق التكليف، والمعنى لا تؤاخذني بنسياني الوعد وغفلتي عنه ولا تكلفني عسرا من أمري، وربما يفسر النسيان بمعنى الترك، والأول أظهر والكلام اعتذار على أي حال" أهـ. [1]

وقال تعالى في قصة موسى عليه السلام: ﴿قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا﴾ [الكهف: 63].

 قال الشيرازي:

 "وهنا قد يطرح هذا السؤال: 

هل يمكن لنبي مثل موسى (عليه السلام) أن يصاب بالنسيان؟

حيث يقول القرآن فنسيا حوتهما ثم لماذا نسب صاحب موسى (عليه السلام) نسيانه إلى الشيطان؟

في الجواب نقول:

 إنه لا يوجد ثمة مانع من الإصابة بالنسيان في المسائل والموارد التي لا ترتبط بالأحكام الإلهية والأمور التبليغية، أي في مسائل الحياة العادية (خاصة في المواقع التي لها طابع اختبار، كما هو الحال في موسى هنا، وسوف نشرح ذلك فيما بعد).

 أما ربط نسيان صاحبه بالشيطان، فيمكن أن يكون ذلك بسبب أن قضية السمكة ترتبط بالعثور على ذلك الرجل العالم، وبما أن الشيطان يقوم بالغواية، لذا فإنه أراد من خلال هذا العمل (النسيان) أن يصلا متأخرين إلى ذلك العالم، وقد تكون مقدمات النسيان قد بدأت من (يوشع) نفسه حيث أنه لم يدقق ويهتم بالأمر كثيرا " اهـ.[2]

وقد ورد عند الامامية ان يوشع بن نون كان نبيا، ووصيا لموسى عليه السلام.

 قال الصدوق:

 "ومما يفسد معارضة خصومنا في نفي تشاكل الائمة والانبياء أن الرسل الذين تقدموا قبل عصر نبينا صلى الله عليه وآله كان أوصياؤهم أنبياء، فكل وصي قام بوصية حجة تقدمه من وقت وفاة آدم عليه السلام إلى عصر نبينا صلى الله عليه وآله كان نبيا، وذلك مثل وصي آدم كان شببث ابنه، وهو هبة الله في علم آل محمد صلى الله عليه وآله وكان نبيا، ومثل وصي نوح عليه السلام كان سام ابنه وكان نبيا، ومثل إبراهيم عليه السلام كان وصيه إسماعيل ابنه و كان نبيا، ومثل موسى عليه السلام كان وصيه يوشع بن نون وكان نبيا... " اهـ.[3]

والنبي معصوم، والنسيان منافي للعصمة عند الامامية.

وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا [طه:115].

 قال الطبرسي:

" والمعنى: (و) أقسم قسما (لقد) وصينا أباهم بأن لا يقرب الشجرة * (فنسى) العهد ولم يتذكر الوصية، يقال: عهد الملك إلى فلان وأوعز إليه وعزم عليه (ولم نجد له عزما) يجوز أن يكون من الوجود الذي هو بمعنى العلم ومفعولاه (له عزما)، وأن يكون نقيض العدم، كأنه قال: وعدمنا له عزما، وقيل: (فنسى) معناه: فترك الأمر " اهـ.[4]

وفي الكافي:

 1 - عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ خَلَفِ بْنِ حَمَّادٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سِنَانٍ قَالَ لَمَّا قَدِمَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) عَلَى أَبِي الْعَبَّاسِ وَهُوَ بِالْحِيرَةِ خَرَجَ يَوْماً يُرِيدُ عِيسَى بْنَ مُوسَى فَاسْتَقْبَلَهُ بَيْنَ الْحِيرَةِ وَالْكُوفَةِ وَمَعَهُ ابْنُ شُبْرُمَةَ الْقَاضِي فَقَالَ لَهُ إِلَى أَيْنَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ أَرَدْتُكَ فَقَالَ قَدْ قَصَّرَ اللَّهُ خَطْوَكَ قَالَ فَمَضَى مَعَهُ فَقَالَ لَهُ ابْنُ شُبْرُمَةَ مَا تَقُولُ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ فِي شَيْ‏ءٍ سَأَلَنِي عَنْهُ الْأَمِيرُ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدِي فِيهِ شَيْ‏ءٌ فَقَالَ وَمَا هُوَ قَالَ سَأَلَنِي عَنْ أَوَّلِ كِتَابٍ كُتِبَ فِي الْأَرْضِ قَالَ نَعَمْ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَرَضَ عَلَى آدَمَ (عليه السلام) ذُرِّيَّتَهُ عَرْضَ الْعَيْنِ فِي صُوَرِ الذَّرِّ نَبِيّاً فَنَبِيّاً وَمَلِكاً فَمَلِكاً وَمُؤْمِناً فَمُؤْمِناً وَكَافِراً فَكَافِراً فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى دَاوُدَ (عليه السلام) قَالَ مَنْ هَذَا الَّذِي نَبَّأْتَهُ وَكَرَّمْتَهُ وَقَصَّرْتَ عُمُرَهُ قَالَ فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ هَذَا ابْنُكَ دَاوُدُ عُمُرُهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً وَإِنِّي قَدْ كَتَبْتُ الْآجَالَ وَقَسَمْتُ الْأَرْزَاقَ وَأَنَا أَمْحُو مَا أَشَاءُ وَأُثْبِتُ وَعِنْدِي أُمُّ الْكِتَابِ فَإِنْ جَعَلْتَ لَهُ شَيْئاً مِنْ عُمُرِكَ أَلْحَقْتُ لَهُ قَالَ يَا رَبِّ قَدْ جَعَلْتُ لَهُ مِنْ عُمُرِي سِتِّينَ سَنَةً تَمَامَ الْمِائَةِ قَالَ فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِجَبْرَئِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَمَلَكِ الْمَوْتِ اكْتُبُوا عَلَيْهِ كِتَاباً فَإِنَّهُ سَيَنْسَى قَالَ فَكَتَبُوا عَلَيْهِ كِتَاباً وَخَتَمُوهُ بِأَجْنِحَتِهِمْ مِنْ طِينَةِ عِلِّيِّينَ قَالَ فَلَمَّا حَضَرَتْ آدَمَ الْوَفَاةُ أَتَاهُ مَلَكُ الْمَوْتِ فَقَالَ آدَمُ يَا مَلَكَ الْمَوْتِ مَا جَاءَ بِكَ قَالَ جِئْتُ لِأَقْبِضَ رُوحَكَ قَالَ قَدْ بَقِيَ مِنْ عُمُرِي سِتُّونَ سَنَةً فَقَالَ إِنَّكَ جَعَلْتَهَا لِابْنِكَ دَاوُدَ قَالَ وَنَزَلَ عَلَيْهِ جَبْرَئِيلُ وَأَخْرَجَ لَهُ الْكِتَابَ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ إِذَا خَرَجَ الصَّكُّ عَلَى الْمَدْيُونِ ذَلَّ الْمَدْيُونُ فَقَبَضَ رُوحَهُ " اهـ.[5]

فهذه الرواية صريحة بنسيان ادم عليه السلام واخبار الله تعالى الملائكة بانه سينسى، وكانت النتيجة انه قد نسي فعلا، وقال قد بقي من عمري ستون سنة، علما انه قد وهبها لداود عليه السلام.

وفي علل الشرائع للصدوق:

"1 - حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن رضي الله عنه قال: حدثنا محمد بن أبي عبد الله الكوفي عن معاوية بن حكيم عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله " ع " قال: سمي الانسان إنسانا لأنه ينسى، وقال الله عز وجل: ﴿ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي﴾ " اهـ.[6]

لقد ربط الامام الصادق نسيان الانسان بنسيان ادم عليه السلام، واستشهد بالآية الكريمة فيما يتعلق بنسيان الانسان.

وقال تعالى: ﴿وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [الانعام: 68]

قال الطوسي في اثناء تفسيره للاية الكريمة:

 "واستدل الجبائي أيضا بالآية على أن الأنبياء يجوز عليهم السهو والنسيان قال بخلاف ما يقوله الرافضة بزعمهم من أنه لا يجوز عليهم شئ من ذلك. وهذا ليس بصحيح أيضا لأنا نقول إنما لا يجوز عليهم السهو والنسيان فيما يؤدونه عن الله، فأما غير ذلك فإنه يجوز أن ينسوه أو يسهو عنه مما لم يؤد ذلك إلى الاخلال بكمال العقل، وكيف لا يجوز عليهم ذلك وهم ينامون ويمرضون ويغشى عليهم، وينسون كثيرا من متصرفاتهم أيضا وما جرى لهم فيما مضى من الزمان " اهـ.[7]

 وقال الطبرسي: " وإما سورة الأنعام / 69 و 70 ينسينك الشيطان) النهي عن مجالستهم (فلا تقعد) معهم (بعد الذكرى) ويجوز أن يراد: وإن أنساك الشيطان قبل النهي قبح مجالستهم فلا تقعد معهم بعد أن ذكرناك قبحها ونبهناك عليه " أهـ.[8]

وقال في المجمع: " ﴿ وإما ينسينك الشيطان ﴾ المعنى وإن أنساك الشيطان نهينا إياك عن الجلوس معهم ويسأل على هذا فيقال كيف أضاف النسيان إلى الشيطان وهو فعل الله تعالى والجواب إنما أضافه إلى الشيطان لأن تعالى أجرى العادة بفعل النسيان عند الإعراض عن الفكر وتراكم الخواطر الردية والوساوس الفاسدة من الشيطان فجاز أضافة النسيان إليه لما حصل عند فعله كما أن من ألقى غيره في البرد حتى مات فإنه يضاف الموت إليه لأنه عرضه لذلك وكان كالسبب فيه" أهـ.[9]

 

297 - تفسير الميزان - الطباطبائي - ج 13 ص 344.

298 - الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ناصر مكارم الشيرازي - ج 9 ص 315 316 .

299 - كمال الدين الصدوق ص 26 .

 

 

300 - تفسير جوامع الجامع - الطبرسي - ج 2 ص 504 .

 

301 - الكافي الكليني - ج 7 ص 378 379، وقال المجلسي عن الرواية في مرآة العقول صحيح ج 24 ص 217.

302 - علل الشرائع - الشيخ الصدوق - ج 1 ص 15.

303 - التبيان - الطوسي - ج 4 ص 165 166.

304 - تفسير جوامع الجامع - الطبرسي - ج 1 ص 580 581.

305 - تفسير مجمع البيان الطبرسي ج 4 ص 81.