شبهة تولية عثمان رضي الله عنه للظالمين.
قولهم:
أن عثمان ولىّ وأمّر من صدر منه الظلم والخيانة وارتكاب الأمور الشنيعة كالوليد بن عقبة[1] الذي شرب الخمر وأم الناس في الصلاة وهو سكران وصلى الصبح أربع ركعات ثم قال: هل أزيدكم؟ وولي معاوية الشام التي هي عبارة عن أربع ممالك فتقوى حتى أنه نازع علي رضي الله عنه وبغى عليه في أيام خلافته.
وولى عبد الله بن سعد مصر فظلم أهلها ظلماً شديداً حتى اضطرهم إلى الهجرة إلى المدينة وخرجوا عليه. وجعل مروان وزيره وكاتبه فمكر في حق محمد بن أبي بكر وكتب مكان اقبلوه اقتلوه[2].
ولم يعزلهم بعد الاطلاع على أحوالهم حتى تضجرت الناس منه فآل أمره إلى أن قتل، ومن كان في هذا حاله فهو غير لائق بالإمامة.
مقالات السقيفة ذات صلة: |
الطعن في أبو بكر والفاروق وذي النورين وأمهات المؤمنين الطعن في الصحابة وتفضيل علي على النبي ﷺ |
والجواب:
أن الإمام لابد له أن يفوض بعض الأمور إلى من يراه لائقاً بحسب الظاهر إذ ليس له علم الغيب، فإنه ليس بشرط في الإمامة عند أهل الحق. وقد كان عماله ظاهراً مطيعين له منقادين لأوامره. وقد ثبت في التاريخ أنهم خدموا الإسلام وشيدوا الدين، فقد فتحوا بلاداً كثيرة حتى وصلوا غرباً إلى الأندلس وشرقاً إلى بلخ وكابل وقاتلوا براً وبحراً، واستأصلوا أرباب الفتن والفساد من عراق العجم وخراسان، وقد عزل بعض من تحقق لديه بعد ذلك سوء حاله كما عزل الوليد[3]. ومعاوية لم يبلغ في زمنه حتى يستحق العزل، بل قد أجرى خدمات كثيرة، كما غزا الروم وفتح منها بلاداً متعددة[4].
وأما الشكايات التي وقعت على عبد الله بن سعد فمن تزوير عبد الله ابن سبأ [5].
وبالجملة لم يكن لعثمان رضي الله عنه قصور، وحاله مع عماله كحال علي رضي الله عنه مع عماله، إلا أن عمال عثمان كانوا منقادين لأوامره ومطيعين له، بخلاف عمال علي، ومن راجع ما نقل من خطب علي رضي الله عنه في حق أتباعه وجنده وأشياعه تبين له صدق هذا الكلام، وأن لا عتب على ذي النورين في ذلك ولا ملام.
وقد كتب علي رضي الله عنه إلى المنذر الجارود العبدي:
(أما بعد فصلاح أبيك غرني وظننت أنك تتبع هداه وتسلك سبيله، فإذا أنت - فيما نما إلي عنك - لا تدع لهواك انقياداً، ولا تبقي لآخرتك عتاداً. تغمر دنياك بخراب آخرتك، وتصل عشيرتك بقطيعة دينك)[6] إلى آخر ما قال.
ومثل هذا كثير عنه. فكما أن علي لا يلحقه طعن بسبب ما وقع من عماله، كذلك عثمان رضي الله عنهما.
[1] الوليد بن عقبة أخو عثمان لأمه، أمهما أروى بنت كريز، وأمها أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب بن هاشم، عمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتوأمة أبيه. أدرك خلافة الصديق رضي الله عنه في أول شبابه وكان محل ثقته، وموضع السر في الرسائل الحربية التي دارت بين الخليفة وقائده خالد بن الوليد في وقعة المذار مع الفرس سنة (12هـ). ثم وجهه مدداً إلى قائده عياض بن غنم الفهري (الطبري 4: 22 ). وفي سنة (13هـ) كان الوليد يلي لأبي بكر صدقات قضاعة، ثم لما عزم الصديق على فتح الشام كان الوليد عنده بمنزلة عمرو بن العاص في الحرمة والثقة والكرامة فكتب إليه وإلى عمرو يدعوهما لقيادة فيالق الجهاد فسار عمرو بلواء الإسلام نحو فلسطين وسار الوليد إلى شرق الأردن ( الطبري 4: 29 - 30 ). ثم رأينا الوليد سنة (15هـ) أميراً لعمر بن الخطاب على بلاد بني تغلب وعرب الجزيرة يحمي ظهور المجاهدين في شمال الشام لئلا يؤتوا من خلفهم. وكان الوليد أول ناشر لدعوة الإسلام بين نصارى تغلب وبقايا إياد بحماسة وغيرة لا مثيل لها. وبهذه الثقة الكبرى التي نالها الوليد من أبي بكر وعمر ولاه عثمان ولاية الكوفة، وكان من خير ولاتها عدلاً ورفقاً وإحساناً، وكانت جيوشه مدة ولايته على الكوفة تسير في آفاق الشرق فاتحة ظافرة موفقة. وانظر في تاريخ الطبري (5/60 ) شهادة الإمام الشعبي له في إمارته وفي جهاده وجزيل إحسانه إلى الناس.
[2] هذا الكتاب زوره الأشتر وحكيم بن جبلة. انظر: العواصم (ص:109 – 110).
[3] مما لا ريب فيه أن الوليد بن عقبة كان في ولايته على الكوفة الحاكم العادل الرحيم المحسن إلى الناس جميعاً. وكانت الكوفة منزل جهاد للفيالق التي يسيرها الوليد بن عقبة إلى سواحل بحر الخزر وبلاد روسيا الآن. واتفق ذات ليلة أن سطا بعض الأشرار على منزل رجل في الكوفة اسمه ابن الحيسمان فقتلوه. وكان في جوار المنزل صحابي مجاهد هو أبو شريح الخزاعي حامل راية رسول الله ص على جيش خزاعة يوم فتح مكة، جاء إلى الكوفة هو وابنه ليلحقا بكتائب الجهاد، واتفق نزوله في جوار بيت ابن الحيسمان فلما سطا الأشرار على ابن الحيسمان ليلاً رآهم أبو شريح الخزاعي وابنه وشهدا عليهم أمام الوليد بن عقبة فحكم عليهم الوليد بن عقبة بإقامة الحد الشرعي. إن الشاهدين اللذين شهدا على الوليد بن عقبة بشرب الخمر هما أبوان لاثنين من الأشرار الذين سطوا على ابن الحيسمان، وقد حنقا على الوليد لإقامة الحد الشرعي عليهما، وشهدا عليه عند عثمان زوراً وكذباً، فقال أمير المؤمنين عثمان لواليه الوليد عقبة: ( تقيم الحدود، ويبوء شاهد الزور بالنار ). وفي تعليقات كتاب العواصم من القواصم (ص:94 – 99) بيان لحقيقة هذه الشهادة نقلاً عن المصادر الإسلامية المحترمة. فارجع إليها لتعلم أن الوليد بن عقبة رضوان الله عليه من خيرة رجال الدولة الإسلامية الأولى، أنه كان موضع ثقة أبي بكر وعمر فضلاً عن عثمان رضوان الله عليه، وأن أياديه على الإسلام جعلته في طليعة المجاهدين العادلين الناصحين.
[4] وقد سبق ذكر الكلمة المأثورة في زمن الدولة العباسية عن الإمام سليمان بن مهران الأعمش في تفضيله معاوية على عمر بن عبد العزيز حتى في عدله، وقول قتادة وهو من أعلام الإسلام: (لو أصبحتم في مثل عمل معاوية لقال أكثركم: هذا المهدي).
[5] في حوادث سنة (27 هـ) من تاريخ الطبري (5/49) أن عثمان لما أمر عبد الله بن سعد بن أبي سرح بالزحف من مصر على تونس لفتحها قال له: (إن فتح الله غداً عليك إفريقية فلك مما أفاء الله على المسلمين خمس الخمس من الغنيمة نفلاً) فخرج بجيشه حتى قطعوا أرض مصر وأوغلوا في أرض إفريقية وفتحوها سهلها وجبلها، وقسم عبد الله بن سعد على الجند ما أفاء الله عليهم وأخذ الخمس الخمس وبعث بأربعة أخماسه إلى عثمان مع وثيمة النصري. فشكا وفد ممن كان مع وثيمة ما أخذه عبد الله بن سعد، فقال لهم عثمان: أنا أمرت له بذلك، فإن سخطتم فهو رد، قالوا: إنا نسخطه، فأمر عثمان عبد الله بن سعد بأن يرده، فرده ورجع عبد الله بن سعد إلى مصر وقد فتح وليس في يده شيء مما افتروا عليه.
[6] نهج البلاغة (3/132)، الغارات للثقفي (/2/898)، بحار الأنوار (33/506).