استكمالا لما سبق من دحض شبهة اعتراف علماء أهل السنة بولادة المهدي المنتظر ومنهم:
رابعاً: علي بن محمد بن الصباغ المالكي والاتهام بالرفض:
يُذكر علي بن محمد بن الصباغ المالكي كأحد العلماء الذين يُزعم أنهم اعترفوا بولادة المهدي. ولكن، وكما هو الحال مع من سبقه، فإن هذا الادعاء لا يستند إلى دليل صحيح، بل إن ابن الصباغ المالكي نفسه قد نُسب إليه الرفض بسبب كتابه "الفصول المهمة في معرفة الأئمة"، كما بيّن صاحب "كشف الظنون" (2/1721). وهذا يعني أن ما يُنقل عنه في هذا الصدد لا يمكن أن يُعتبر دليلاً على موقف أهل السنة، لأنه يُعدّ من المائلين إلى مذهب الرافضة.
إنّ مجرد ذكر شخصية ما في كتاب، أو كتابة مؤلف عنها، لا يعني بالضرورة الإقرار بمعتقداتها. فالعلماء قد يذكرون آراء الفرق الأخرى للرد عليها أو لتفنيدها، وهذا لا يعني أنهم يتبنون تلك الآراء. والقرآن الكريم يحثنا على التثبت والتحقق من كل ما يُقال، وعدم اتباع الأهواء والظنون، كما في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَتَّبِعِ ٱلْأَهْوَآءَ فَيُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌۢ بِمَا نَسُوا۟ يَوْمَ ٱلْحِسَابِ﴾ [ص: ٢٦]. وهذا يؤكد على أهمية التزام المنهج العلمي في البحث والتحقيق، وعدم الانسياق وراء الادعاءات التي لا تستند إلى دليل صحيح.
خامساً: ابن خلكان وتوضيح سياق كلامه:
يُستشهد البعض أيضاً بكلام ابن خلكان في "الكامل في التاريخ" (7/274) حيث قال: «وفيها توفي أبو محمد العلوي العسكري، وهو أحد الأئمة الإثني عشر على مذهب الإمامية، وهو والد محمد الذي يعتقدونه المنتظر بسرداب سامرا». ويدّعون أن هذا اعتراف من ابن خلكان بولادة المهدي المزعوم. ولكن هذا الادعاء هو أيضاً تدليس واضح، فابن خلكان هنا يسوق كلامه في سياق نقل ما يعتقده الإمامية، وليس في سياق إقراره الشخصي بهذه الولادة.
إنّ المؤرخين، ومنهم ابن خلكان، دأبوا على ذكر آراء الفرق والمذاهب المختلفة عند حديثهم عن الشخصيات التاريخية، وهذا لا يعني بالضرورة تبنيهم لتلك الآراء. فابن خلكان هنا يوضح أن محمد هو الذي "يعتقدونه" أي الإمامية، وليس هو شخصياً. وهذا فرق جوهري بين نقل المعتقد والإقرار به. فلو كان ابن خلكان يعتقد بولادة المهدي المزعوم، لصرّح بذلك بوضوح، ولما استخدم صيغة "يعتقدونه".
إنّ هذا الأسلوب في التضليل، وهو أخذ جزء من كلام العالم وتفسيره بما يوافق الهوى، هو أسلوب مذموم في البحث العلمي، ويتعارض مع مبادئ الأمانة العلمية. وقد حذر الله تعالى من الكذب والافتراء على الناس، فقال سبحانه: ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي ٱلْكَذِبَ ٱلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِۖ وَأُو۟لَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْكَٰذِبُونَ﴾ [النحل: ١٠٥]. وهذا يؤكد على أن الكذب والافتراء هو من صفات الذين لا يؤمنون بآيات الله، وهو ما ينطبق على من يحاولون تضليل الناس بادعاءات باطلة.
سادساً: شمس الدين الذهبي وتفنيد ادعاءات الإقرار بالولادة:
يُعدّ الإمام شمس الدين الذهبي من كبار أئمة أهل السنة والجماعة، وله مكانة علمية رفيعة. ومع ذلك، يحاول البعض استغلال بعض أقواله للادعاء بأنه اعترف بولادة المهدي المنتظر المزعوم. وهذا الادعاء هو من أشد أنواع التدليس والتضليل، لأن الإمام الذهبي كان من أشد المنكرين لهذه الولادة، ومن أشد المنتقدين لعقيدة الرافضة في المهدي.
يستشهد مروجو الشبهة ببعض عبارات الذهبي في كتبه، مثل قوله في "العبر في خبر من غبر" (1/373) عند حديثه عن الحسن بن علي الجواد: «وهو والد المنتظر محمد صاحب السرداب». أو قوله في نفس الكتاب (1/381) عند حديثه عن محمد بن الحسن العسكري: «أبو القاسم الذي تلقبه الرافضة: الخلف الحجة وتلقبه بالمهدي وبالمنتظر وتلقبه بصاحب الزمان وهو خاتمة الاثني عشر، وضلال الرافضة ما عليه مزيد، فإنهم يزعمون أنه دخل السرداب الذي بسامرا فاختفى، وإلى الآن، وكان عمره لما عدم تسع سنين أو دونها».
إنّ هذه العبارات، وغيرها مما يُنقل عن الذهبي، لا تدل أبداً على إقراره بولادة المهدي المزعوم، بل هي في سياق نقل ما يعتقده الرافضة، مع إتباع ذلك بالتعقيبات التي تُظهر إنكاره الشديد لهذه العقيدة. فالذهبي، رحمه الله، كان يذكر أقوال الرافضة ثم يُعقب عليها بما يُبين بطلانها وضلالها. فقوله: «وضلال الرافضة ما عليه مزيد» بعد ذكره لمعتقداتهم في المهدي، هو دليل واضح على إنكاره لهذه العقيدة، وليس إقراراً بها.
بل إن الذهبي يُصرح بإنكاره لهذه العقيدة في مواضع أخرى، ففي "سير أعلام النبلاء" (23/297) يقول عند ترجمة الحسن العسكري: «فأما ابنه محمد بن الحسن الذي يدعوه الرافضة القائم الخلف الحجة فولد سنة ثمان وخمسين، وقيل سنة ست وخمسين. عاش بعد أبيه سنتين ثم عدم ولم يعلم كيف مات. وأمه أم ولد. وهم يدعون بقاءه في السرداب من أربعمائة وخمسين سنة. وأنه صاحب الزمان. وأنه حي يعلم علم الأولين والآخرين، ويعترفون أن أحداً لم يره أبداً. فنسأل الله أن يثبت علينا عقولنا وإيماننا». هذه العبارة الأخيرة: «فنسأل الله أن يثبت علينا عقولنا وإيماننا» هي بمثابة تعليق ساخر من الذهبي على هذه العقيدة، وتعبير عن استغرابه الشديد من تصديقها، وهي دليل قاطع على أنه لا يؤمن بها.
إنّ محاولة الكوراني وغيره من مروجي الشبهة، الادعاء بأن قول الذهبي "ولد سنة..." يدل على إيمانه بولادة المهدي، هو محض خلط وتلبيس. فالذهبي هنا ينقل ما يزعمه الرافضة، وليس إقراراً منه. ولو كان الذهبي يعتقد بولادته، لما عقب على ذلك بالتهكم والسخرية. فالذهبي كلما ذكر مهدي الرافضة قال: "نسأل الله أن يثبت علينا عقولنا وإيماننا"، مما يدل على أن الاعتقاد بمثل هذا المهدي ليس من إيمان الذهبي في شيء.
وقد أكد الذهبي في مواضع أخرى أن الحسن العسكري لم يعقب، ونقل ذلك عن أئمة كبار مثل محمد بن جرير الطبري ويحيى بن صاعد، وهما من أهل المعرفة والثقة. وهذا يؤكد أن موقف الذهبي كان واضحاً وصريحاً في إنكار ولادة المهدي المزعوم، وأن كل ما يُنقل عنه بخلاف ذلك هو محض تدليس وتشويه للحقائق.
إنّ القرآن الكريم يحذرنا من اتباع الظن وما تهوى الأنفس، ويأمرنا بالتحقق من الأخبار، كما في قوله تعالى: ﴿وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّاۚ إِنَّ ٱلظَّنَّ لَا يُغْنِى مِنَ ٱلْحَقِّ شَيْـًٔاۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌۢ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾ [يونس: ٣٦]. وهذا ينطبق تماماً على من يحاولون تضليل الناس بادعاءات باطلة لا تستند إلى دليل صحيح، بل إلى تحريف وتأويل لأقوال العلماء.
الخلاصة والنتائج:
بعد هذا العرض المفصل والتحليل الدقيق للادعاءات التي يروجها البعض حول اعتراف علماء أهل السنة بولادة المهدي المنتظر المزعوم، يتضح جلياً أن هذه الادعاءات لا تستند إلى أي أساس صحيح، بل هي محض تدليس وتضليل يهدف إلى خلط الأوراق وتشويه الحقائق. لقد بينا بالدليل والبرهان أن الشخصيات التي يُستشهد بها، مثل سبط ابن الجوزي والكنجي الشافعي وعلي بن محمد بن الصباغ المالكي، لم يكونوا على منهج أهل السنة والجماعة في هذه المسألة، بل كانوا مائلين إلى التشيع، أو متهمين بالرفض والعمالة.
أما بالنسبة لعلماء أهل السنة الأجلاء كابن حجر الهيثمي والإمام الذهبي، فقد أوضحنا أن كلامهم الذي يُستشهد به هو في سياق نقل معتقدات الرافضة، مع التعقيب عليها بما يُبين بطلانها وسخافتها، وليس في سياق الإقرار بها. بل إنهم كانوا من أشد المنكرين لهذه الولادة المزعومة، ومن أشد المنتقدين لعقيدة الرافضة في المهدي صاحب السرداب.
إنّ منهج أهل السنة والجماعة في التعامل مع قضية المهدي المنتظر يستند إلى نصوص شرعية صحيحة من الكتاب والسنة، ويختلف اختلافاً جذرياً عن التصورات التي تتبناها بعض الفرق الأخرى. فالمهدي عند أهل السنة هو رجل من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، يخرج في آخر الزمان، وليس هو ذلك الشخص المزعوم الذي ولد واختفى في سرداب. وهذا ما يؤكده كبار علماء أهل السنة عبر العصور.
وفي الختام، نؤكد على أهمية التثبت من الأخبار، وعدم الانسياق وراء الشبهات والادعاءات الباطلة التي يروجها أصحاب الأهواء. فالقرآن الكريم يحثنا على التحقق من كل ما يُقال، وعدم اتباع الظن، لأن الظن لا يغني من الحق شيئاً. ونسأل الله أن يثبتنا على الحق، وأن يهدينا إلى سواء السبيل.
المصادر:
• القرآن الكريم.
• ميزان الاعتدال في نقد الرجال، شمس الدين الذهبي.
• سير أعلام النبلاء، شمس الدين الذهبي.
• مئة منقبة من مناقب أمير المؤمنين، محمد بن أحمد القمي.
• البداية والنهاية، ابن كثير.
• اليقين في إمرة أمير المؤمنين، ابن طاووس.
• الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم، ابن طاووس.
• كتاب الغيبة، محمد بن إبراهيم النعماني.
• الصواعق المحرقة على أهل الرفض والضلال والزندقة، ابن حجر الهيثمي.
• كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، حاجي خليفة.
• الكامل في التاريخ، ابن الأثير.
• العبر في خبر من غبر، شمس الدين الذهبي.
• تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، شمس الدين الذهبي.