شهد عام 658هـ اجتياح التتار بقيادة ملكهم هولاكو خان لبلاد الشام، في حملة همجية مدمّرة لم تفرّق بين كبير وصغير، ولا بين مسلم أو ذمي، ولم يكن لهذه الكارثة أن تتم بهذا الشكل لولا خيانة بعض طوائف من الداخل، أبرزهم الروافض والنصارى.
فقد اجتاز التتار نهر الفرات عبر جسور صنعوها خصيصًا لعبورهم، ودخلوا مدينة حلب في الثاني من شهر صفر، وحاصروها لأيام سبعة فقط. وما إن أعطوا أهلها الأمان حتى نقضوه، واقترفوا جرائم بشعة من القتل الجماعي والنهب والسبي، حتى تكررت فواجع بغداد ذاتها على أرض حلب، كما يذكر ابن كثير في البداية والنهاية (13/218).
تسليم المدن وخيانة الشيعة والنصارى:
بعد سقوط حلب، أرسل والي حماة مفاتيح المدينة إلى هولاكو طواعية، فأوكل أمرها إلى خسروشاه الذي خرّب أسوارها كما فعل بحلب. ثم أرسل هولاكو القائد كتبغا نحو دمشق، فدخلها دون مقاومة تُذكر. وأسند ولايتها إلى رجل يُدعى إيل سيان، وهو نصراني متعصب، سرعان ما عظّم رجال الكنيسة، فزار الكنائس، ورفع من شأن القساوسة، الذين استغلوا الفرصة وأعلنوا قوتهم.
واستغل النصارى هذا الحال فأرسلوا وفودًا لهولاكو محمّلة بالهدايا والتحف، فعادوا بفرمان أمان مكتوب بخط التتار، ودخلوا دمشق من باب توما حاملين الصلبان على رؤوسهم، يهتفون بانتصار "الدين الصحيح"، ويُعلنون تفوق النصرانية على الإسلام. بل كانوا يرشّون الخمر أمام المساجد كنوع من الاستفزاز. إنها صورة صادمة لمشهد خيانة داخلي لا يقل عن غزو خارجي.
الشيعة في صف الغزاة:
لم تتوقف الخيانة عند النصارى، بل ساهم الشيعة في تسليم البلاد أيضًا، حيث استصدر هولاكو مرسومًا يولي فيه أحد الشيعة كمال الدين عمر بن بدر التفليسي منصب القضاء على جميع مدن الشام والجزيرة والموصل وماردين. وهذا يؤكد مدى الثقة التي منحها التتار للشيعة مقابل خيانتهم للمسلمين.
بل عندما وقعت معركة عين جالوت التي أعادت كفة النصر للمسلمين بقيادة السلطان المظفر قطز، انكشفت الخيانات علنًا، فانقلب أهل الشام على الخونة، من النصارى والروافض على حد سواء.
القصاص من الخونة:
يذكر ابن كثير في نفس المرجع (13/221) أن العامة انتفضت على الخونة الذين دعموا التتار، ومنهم الفخر محمد بن يوسف الكنجي، أحد شيوخ الروافض الذي كان يعاون التتار ويسرق أموال المسلمين لحسابهم. وقد وصفه ابن كثير بأنه "خبيث الطوية، ممالئ لهم، مصانع على المسلمين، قبحه الله"، وأُعدم مع مجموعة من أمثاله من المنافقين.
{فقطع دابر القوم الذين ظلموا، والحمد لله رب العالمي}
عدالة أهل السنة:
ورغم ما نزل بالمسلمين من قتل وتشريد، لم يكن أهل السنة دعاة ظلم ولا فوضى، فحين همّ بعض الناس بالانتقام من اليهود، نُهي عن ذلك لعدم تورطهم في خيانة مماثلة، بخلاف ما فعله النصارى والشيعة، الذين ثبتت عليهم الخيانة والتحالف مع العدو، كما يسجل ابن كثير.
الجزاء من جنس العمل:
ومن عجائب ما سُطّر في هذه الأحداث، أن من خان المسلمين نال جزاءه من نفس من خان لأجله. فقد أورد ابن كثير (13/244) أن هولاكو نفسه استدعى رجلاً من الخونة يُدعى الزين الحافظي – سليمان بن عامر العقرباني، وقال له بوضوح:
"ثبت عندي خيانتك"، ثم سلط عليه من العقوبات ما يليق بخيانته.
وقد كان هذا الزين قد دلّ التتار على عورات المسلمين وأذاهم حين دخلوا الشام، فكان عقابه عبر نفس الأيدي التي خدمها.
وهكذا، فإن من يعاون ظالمًا، يُسلّط عليه. وهي سنّة إلهية تتكرر في كل زمان.
خاتمة:
إن خيانة الروافض والنصارى أثناء اجتياح التتار لبلاد الشام لم تكن مجرد لحظة عابرة، بل كانت امتدادًا لعقائد وأهواء دفينة. وقد كشفت أحداث عين جالوت أن المسلمين، وعلى رأسهم أهل السنة، إذا تمكّنوا فإنهم يعاقبون بعدل وإنصاف، لا تجاوز فيه ولا ظلم.
وفي النهاية، فإن من خان المسلمين لأجل مكسب زائل، ناله الذل والمهانة ممن مالأهم وخان لأجلهم، مصداقًا لقوله تعالى:
{ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله}