قال الصحابي عبدالله بن مسعود رضي الله عنه:
"اتبعوا ولا تبتدعوا؛ فقد كُفيتم، عليكم بالأمر العتيق". لقد ابتُلي المسلمون منذ العصور الأولى بظهور البدع وانتشارها، وكلما تباعد الزمن عن عهد النبوة، ازدادت البدع وتكاثرت. وما من بدعة إلا وهي هوى ما أنزل الله به من سلطان. والعجيب أن بعض من ينتسب إلى العلم يُلبس على العامة بدعته بحجة أنها تقرب إلى الله، فيفسد عليهم دينهم ويضلهم.
ولو تأملنا في حال أبرز مبتدعي البدع الكبرى، لرأيناهم من شرّ الناس؛ فعبدالله بن سبأ - مؤسس مذهب الرافضة - كان يهوديًا حاقدًا دخل الإسلام ظاهرًا لإشعال الفتنة. وحرقوص بن زهير رأس الخوارج تجرأ على النبي صلى الله عليه وسلم. والجعد بن درهم - مؤسس الجهمية - كان زنديقًا معروفًا، دعا إلى الضلال والإلحاد. وكل مبتدع يُحسن ترويج باطله بالكذب والتلبيس.
ما هي البدعة؟
البدعة لغة:
هي الاختراع على غير مثال سابق، كما في قوله تعالى: ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [البقرة: 117]؛ أي مبدعهما من غير سابق مثال.
أما في الشرع:
فهي إحداث أمر في الدين لم يشرعه الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم في العقيدة أو العبادة. وقد عرّفها الإمام القرطبي وابن رجب وابن حجر بأنها كل ما أُحدث بعد إكمال الدين، وليس له أصل في الشرع.
أنواع البدع:
تنقسم البدعة إلى:
1- بدعة اعتقادية:
مثل أقوال المعتزلة، والرافضة، والخوارج، والجهمية. نشأت من الغلو والتشدد أو من منطلقات عقلية منحرفة، وقد استخدمت المنطق والفلسفة اليونانية لتبرير انحرافاتها.
2- بدعة عملية (في العبادات):
وتشمل:
❖ القسم الأول: إحداث عبادة لم تُشرع؛ كصلاة مخترعة.
❖ القسم الثاني: الزيادة في العبادة؛ كأن يصلي العشاء خمس ركعات.
❖ القسم الثالث: تغيير صفة أداء العبادة؛ مثل قراءة الأذكار جماعيًا بعد الصلاة.
❖ القسم الرابع: تخصيص وقت للعبادة لم يخصصه الشرع؛ مثل صيام يوم النصف من شعبان.
حكم البدعة:
البِدع في الدين بجميع أشكالها محرّمة، وقد وردت النصوص الكثيرة في النهي عنها، منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) [متفق عليه]، وفي رواية: ((من عمل عملًا ليس عليه أمرنا، فهو رد)).
وفي حديث الترمذي: ((إياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)). وقد أوضح الحافظ ابن حجر أن البدعة شرعًا مذمومة لأنها بلا أصل شرعي.
هل هناك بدعة حسنة؟
ظنّ بعض الناس وجود بدعة حسنة، وهذا مخالف للنصوص الواضحة؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار)). وقال الإمام مالك: "من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة، فقد زعم أن محمدًا خان الرسالة".
وما ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقوله: "نعمت البدعة هذه" في صلاة التراويح؛ فهو يقصد البدعة في معناها اللغوي، لا الشرعي؛ لأن التراويح سنة ثابتة.
متى وأين ظهرت البدع؟
ظهرت البدع بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وأولها بدعة الخوارج في عهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه سنة 37هـ، ثم التشيع في عهد المختار بن أبي عبيد، ثم بدع القدرية والجهمية. وأماكن نشأتها:
❖ الكوفة: الشيعة والمرجئة.
❖ البصرة: المعتزلة والقدرية.
❖ الشام: النواصب.
❖ خراسان: الجهمية.
أبرز الفرق المبتدعة:
❖ الرافضة: ظهرت في القرن الأول، أسسها عبدالله بن سبأ.
❖ الخوارج: كفروا بالكبيرة وخرجوا على الصحابة.
❖ المعتزلة: أنشأها واصل بن عطاء، وقدّموا العقل على النقل.
❖ الجهمية: مؤسسها الجعد بن درهم، أنكر صفات الله.
❖ النواصب: نصبوا العداء لآل البيت.
❖ القدرية، المرجئة، النصيرية، الإسماعيلية، الكرامية، الواقفية، الإباضية، الاتحادية. وكلها فرق ضالة رد عليها أهل السنة.
جهود العلماء في التصدي للبدع:
❖ الإمام أحمد: قال: "الفتنة: الشرك، ومن رد قول النبي قد يُفتن".
❖ الإمام مالك: "أهل الأهواء بئس القوم".
❖ الشافعي: "كل ذنب دون الشرك أهون من البدعة".
❖ ابن المبارك، الثوري، الأوزاعي، ابن عيينة: حذروا من أهل البدع، ونهوا عن مجالستهم.
كتب أُلِّفت للرد على البدع:
❖ الرد على الجهمية – أحمد بن حنبل.
❖ الرد على الرافضة – محمد بن عبدالوهاب.
❖ الاعتصام – الشاطبي.
❖ اقتضاء الصراط المستقيم – ابن تيمية.
❖ الإبداع في كمال الشرع – ابن عثيمين.
❖ التحذير من البدع – ابن باز.
الخاتمة:
البدعة شر محض، ووسيلة للضلال والانحراف عن السنة، وهي أحب إلى الشيطان من المعصية، ولا يُرجى لصاحبها هدى حتى يتوب. وقد بذل العلماء جهدًا عظيمًا في فضح البدع والرد على أصحابها. فالخير كل الخير في اتباع السنة، والشر كل الشر في الابتداع.
نسأل الله أن يُحيينا على السنة، ويُميتنا عليها، ويجنبنا البدع وأهلها.
المصادر والمراجع:
❖ صحيح البخاري، الإمام البخاري.
❖ صحيح مسلم، الإمام مسلم.
❖ رياض الصالحين، الإمام النووي.
❖ فتح الباري، ابن حجر.
❖ جامع العلوم والحكم، ابن رجب.
❖ الجامع لأحكام القرآن، القرطبي.
❖ الاعتصام، الشاطبي.
❖ عقيدة التوحيد، صالح الفوزان.
❖ صفة الصلاة، الألباني.
❖ منهاج السنة، ابن تيمية.
❖ أحمد بن حنبل، عبدالغني الدقر.
❖ سفيان الثوري، عبدالغني الدقر.
❖ عبد الله بن المبارك، محمد عثمان جمال.
❖ الشافعي، عبدالغني الدقر.
❖ الأوزاعي، عبد الستار الشيخ.