منذ القرون الأولى، دأبت الفرقة الضالة المسماة بالشيعة على اختلاق الروايات والأحاديث الباطلة التي تمسّ مكانة الصحابة الكرام، لا سيّما أبا بكر وعمر وعثمان وعليًّا رضي الله عنهم أجمعين. وقد تجاوزوا الحدّ حتى طعنوا في كبار علماء أهل السنة الذين دافعوا عن نقاء العقيدة الإسلامية، ومن أبرز من نالهم الأذى والافتراء شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
وقد اتهمه بعض الجهّال والمتعصبين بأنه ينتقص من عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أو يميل عنه، وهي تهمة باطلة لا تليق بمقام هذا الإمام الكبير الذي دافع عن أهل البيت وذبّ عنهم أكاذيب الرافضة، وأثبت فضل علي رضي الله عنه في مواضع كثيرة من كتبه.
وفي هذا المقال، نسلّط الضوء على أبرز من اتهمه بهذه الفرية، ونكشف حقيقة هذه المزاعم، مع تحليل أقوالهم وبيان الردّ العلمي عليها.
المــتــهــمــون
لشيخ الإسلام بتنقص علي – رضي الله عنه – والانحراف عنه
لقد حاولت أن أذكر في هذا المبحث أبرز المتهمين لشيخ الإسلام بتلك الفرية، ممن عثرت على أقوالهم، مع توثيقها من كتبهم أو من كتب الناقلين عنهم، وقد اتضح لي أنهم على نوعين:
الأول: أناس لم يفهموا مقاصد شيخ الإسلام من عباراته التي ذكرها في كتابه " منهاج السنة " والتي ظنوا أن فيها تنقصاً لعلي - رضي الله عنه -، وأداهم لهذا عجلتهم في الحكم دون ترو، ولا مراجعة لأقوال شيخ الإسلام الصريحة في نفي ذلك عن نفسه، إضافة إلى عدم إدراكهم لعمق مذهب الشيخ في رده لأكاذيب الروافض، فلهذ زلوا هذا الزلة العظيمة. وخير مثال لهؤلاء: الحافظ ابن حجر العسقلاني – عفا الله عنه-
الثاني أناس قد أشربت قلوبهم مختلف أنواع البدع، فطارت قلوبهم فرحاً عندما عثروا على تلك العبارات التي ظنوها تنقصاً لعلي – رضي الله عنه- فأذاعوا بها شرقاً وغرباً قاصدين بذلك ذم شيخ الإسلام والتنفير منه ومن كتبه وآرائه التي تخالف مشربهم.
وخير مثال لهؤلاء: ابن حجر الهثيمي، والكوثري، والغماري، والسقاف، والحبشي، وغيرهم – كما سيأتي -.
المتهمون وأقوالهم:
|
ابن حجر العسقلاني: |
فمنهم العلامة الحافظ ابن حجر العسقلاني - رحمه الله – الذي جرأت كلماته السفهاء على شيخ الإسلام، واتخذوها متكأ للتطاول على مـقـامـه – رحمه الله – وسهولة كيل التهم له بتنقص علي – رضي الله عنه – ما دام الحافظ – رحمه الله – قد ألمح إلى ذلك ومهد لهم الطريق بكلماته في شيخ الإسلام.
ونحن نعلم أن الحافظ – رحمه الله – هو ممن يقدرون شيخ الإسلام، ويثنون عليه، ويعرفون فضله.
قال العلامة محمود شكري الألوسي:
(إن الحافظ ابن حجر العسقلاني موالاته ومحبته للشيخ ابن تيمية مما لا ينكره إلا جاهل، وقد تلقى العلم عن تلامذة الشيخ وأصحابه وانتفع بكتبه، وقرأ كثيراً منها درساً، وهذا هو اللائق به وبأمثاله من أهل الفضل والعلم، وقد قيل: إنما يعرف ذا الفضل ذووه)
قلت: ومن ذلك قول الحافظ: ولو لم يكن للشيخ تقي الدين من المناقب إلا تلميذه الشهير الشيخ شمس الدين ابن قيم الجوزية صاحب التصانيف النافعة السارة، التي انتفع بها الموافق والمخالف: لكان غاية في الدلالة على عظيم منزلته، فكيف وقـد شهـد لـه بالتقدم في العلوم والتمييز في المنطوق والمفهوم أئمة عصره من الشافعية وغيرهم فضلاً عن الحنابلة)
أما كلام الحافظ في شيخ الإسلام حول موضوع تنقص على – رضي الله عنه – فهو اجتهاد خاطئ من الحافظ تعجل في إطلاقه لعدم فهمه مقاصد شيخ الإسلام.
ومن ذلك قوله في لسان الميزان في ترجمة الرافضي الذي رد عليه شيخ الإسلام:
(صنف كتاباً في فضائل على – رضي الله عنه – نقصه الشيخ تقي الدين ابن تيمية في كتاب كبير، وقد أشار الشيخ تقي الدين السبكي إلى ذلك في أبياته المشهورة حيث قال: وابن المطهر لم تطهر خلائقه........)
قال ابن حجر: (طالعت الرد المذكور فوجدته كما قال السبكي في الاستيفاء، لكن وجدته كثير التحامل إلى الغاية في الرد الأحاديث التي يوردها ابن المطهر، وان كان معظم ذلك من الموضوعات الواهيات، لكنه رد في رده كثيراً من الأحاديث الجياد التي لم يستحضر حالة التصنيف مظانها، لأنه كان لاتساعه في الحفظ يتكل على ما في صدره، والإنسان عامد للنسيان، وكم من مبالغة لتوهين كلام الرافضي أدته أحياناً إلى تنقيص على رضي الله عنه).
وقـال – أيضاً – في تـرجمة الـرافــضي في كتابـه: (الدرر الكامنة): (له كتاب في الإمامة رد عليه فيه ابن تيمية بالكتاب المشهور المسمى بالرد على الرافضي، وقد أطنب فيه وأسهب، وأجاد في الرد إلا أنه تحامل في مواضع عديدة، ورد أحاديث موجودة وإن كانت ضعيفة بأنها مختلقة).
وقال في الدرر الكامنة في ترجمة ابن تيمية: (وكان يتكلم على المنبر على طريقة المفسرين مع الفقه والحديث، فيورد في ساعة من الكتاب والسنة واللغة والنظر ما لا يقدر أحد على أن يورده في عدة مجالس، كأن هذه العلوم بين عينيه فأخذ منها ما يشاء ويذر، ومن ثم نسب أصحابه إلى الغلو فيه واقتضى لـه ذلك العجب بنفسه حتى زهى على أبناء جنسه، واستشعر أنه مجتهد فصار يرد على صغير العلماء وكبيرهم، قعويهم وحديثهم، حتى انتهى إلى عمر فخطأه في شئ، فبلغ الشيخ إبراهيم الرقي فانكر عليه، فذهب إليه واعتذر واستغفر، وقال في حق علي: أخطأ في سبعة عشر شيئاً ثم خالف فيها نص الكتاب، منها اعتداد المتوفي عنه زوجها أطول الأجلين)
وقال ابن حجر – أيضاً -: منهم من ينسبه إلى النفاق لقوله في علي ما تقدم، ولقوله: إنه كان مخذولا حيث ما توجه، وأنه حاول الخلافة مراراً فلم ينلها، وإنما قاتل للرياسة لا للديانة، ولقوله: إنه كان يحب الرياسة، وإن عثمان كان يحب المال، ولقوله: أبو بكر أسلم شيخاً يدري ما يقول وعلى أسلم صبياً، والصبي لا يصح إسلامه على قول، وبكلامه في قصة خطبة بنت أبي جهل، ومات مانسبها من الثناء على..... وقصة أبي العاص ابن الربيع وما يؤخذ من مفهومها، فإنه شنع في ذلك، فألزموه بالنفاق لقوله صلى الله عليه وسلم " ولا يبغضك إلا منافق ")
|
ابن حجر الهيتمي: |
ابن حجر الذي قال في فتاواه الحديثية:
(ابن تيمية عبد خذله الله تعالى وأضله وأعماه وأصمه وأذله وبذلك صرح الأئمة الذين بينوا فساد أحواله وكذب أقواله، ومن أراد ذلك فعليه بمطالعة كلام الإمام المجتهد المتفق على إمامته وجلالته وبلوغه مرتبة الاجتهاد أبي الحسن السبكي وولده التاج والشيخ الإمام العز بن جماعة وأهل عصرهم وغيرهم من الشافعية والمالكية والحنفية.
ولم يقصر اعتراضه على متأخري الصوفية بل اعترض على مثل عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما – والحاصل أن لا يقام لكلامه وزن، بل يرمى في كل وعر وحزن ويعتقد فيه أنه مبتدع ضال ومضل جاهل غال، وأجارنا من مثل طريقته وعقيدته)
قال: (ولا زال يتتبع الأكابر حتى تمالأ عليه أهل عصره ففسقوه وبدعوه، بل كفره كثير منهم، وقد كتب إليه بعض أجلاء عصره علماً ومعرفة سنه خمس وسبعمائة:
من فلان إلى الشيخ الكبير العالم إمام أهل عصره – بزعمه – أما بعد، فإنا أحببناك في الله زماناً وأعرضنا عما يقال فيك إعراض الفضل إحساناً، إلى أن ظهر لنا خلاف موجبات المحبة بحكم ما يقتضيه العقل والحس، وهل يشك في الليل عاقل إذا غربت الشمس؟ وإنك أظهرت إنك قائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والله تعالى أعلم بقصدك ونيتك، ولكن الإخلاص مع العمل ينتج ظهور القبول، وما رأينا آل أمرك إلا إلى هتك الأستار والأعراض باتباع من لا يوثق بقوله من أهل الأهواء والأغراض، فهو سائر زمانه يسب الأوصاف والذوات ولم يقنع بسب الأحياء حتى حكم بتكفير الأموات.
ولم يكفه التعرض على ما تأخر من صالحي السلف حتى تعدى إلى الصدر الأول ومن لـه أعلى المراتب في الفضل، فيا ويح من هؤلاء خصماؤه يوم القيامة، وهيهات أن لا يناله غضب وأنى له بالسلامة.
وذكر سامعه منه تخطئة الخليفتين عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب، وقد تقدم، ثم قال: فيا ليت شعري من أين يحصل لك الصواب إذا أخطأ علي بزعمك كرم الله وجهه وعمر بن الخطاب ؟ والآن قد بلغ هذا الحال إلى منتهاه والأمر إلى مقتضاه ولا ينفعني إلى القيام في أمرك ودفع شرك، لأنك قد أفرطت في الغي ووصل أذاك إلى كل ميت وحي، وتلزمني الغيرة شرعاً لله تعلى ولرسوله، ويلزم ذلك جميع المؤمنين وسائر عباد الله المسلمين، بحكم ما يقوله العلماء، وهم أهل الشرع، وأرباب السيف الذي بهم الوصل والقطع، إلى أن يحصل منك الكف عن أعراض الصالحين رضي الله عنهم أجمعين)
قلت: قال صاحب كتاب (جلاء العينين):
السيد نعمان الألوسي بعد نقله لهذا الكلام:
(كان ينبغي من ابن حجر أن يعزو هـذا الكـلام إلـى كتاب الذي نقله منه، ونسبه إلى ابن تيمية)
وقال أيضاً: (إن ما نسبه الشيخ ابن حجر إلى شيخ الإسلام من سوء الاعتقاد في أكابر الصحابة الكرام لا أصل له)
|
ابن حجر الهيتمي: |
ومن المتهمين لشيخ الإسلام بأنه منحرف عن على المدعو زاهد الكوثري أحد رؤوس البدعة في هذا القرن والذي سخر كل تآليفه وتعليقاته على الكتب في النيل من علماء السلف ممن لم يوافق مشربه البدعي.
يقول هذا الكوثري راداً على شيخ الإسلام تضيفه حديث (رد الشمس لعلي – رضي الله عنه) دون اعتبار لتصحيح الطحاوي له:
(فتراه يحكم عليه هذا الحكم القاسي لأنه صحح حديث لد الشمس لعلي كرم الله وجهه، فيكون الاعتراف بصحة هذا الحديث ينافي انحرافه عن علي رضي الله عنه، وتبدو على كلامه آثار بغضه لعلي عليه السلام في كل خطوة من خطوات تحدثه عنه)
ويقول في كتابه " الإشفاق":
(ولو لا شدة ابن تيمية في رده على ابن المطهر في منهاجه إلى أن بلغ به الأمر أن يتعرض لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه على الوجه الذي تراه في أوائل الجزء الثالث منه، بطريق يأباه كثير من أقحاح الخوارج مع توهين الأحاديث الجيدة في هذا السبيل – لما قامت دولة الغلاة من الشيعة في بلاد الفرس والعراق وشرق الآسيا (كذا) الصغرى وأذربيجان من عهد الملك المغولي "خدابنده" وابن المطهر الحلي لما وصل إليه كتاب ابن تيمية هذا، قال: كنت أجاوبه لو كان يفهم كلامي، ولكن جوابي يكون بالفعل، حتى سعي سعياً إلى أن تمكن من قـلب الـدولـة السنـية مـن تـلك الأقـطـار غـاليـة في التشيـع يحـمل " خدابنده" الملك الشعوب على المتذهب بمذهب ابن المطهر، ولم يزل الغلو في التشيع في تلك البلاد منذ علم ابن تيمية هذا، ولم كان يسعى بحكمة لما بعدت شقة الخلاف بين الإخوان المسلمين على الوجه الذي تراه)
قـلت: قـال الشيـخ محـمـد بهـجـة البيـطـار راداً هـذا الاتـهـام عـن شـيخ الإسلام:
(أقوال: كلامه هذا الصريح في أن الإمام ابن تيمية هو الذي أثار ثائرة الشيعة بتعصبه عليهم، وطعنه فيهم، وتنقيصه علياً عليه السلام بما يأبى مثله الخوارج وأنه هو الذي حمل ابن المطهر على هذا الغلو في التشيع والسعي في نشر المذهب من عهد الملك المغولي "خدابنده " الذي تشيع وقلب دولته شيعية بسعي ابن المطهر الحلي هذا، وأن منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية لشيخ الإسلام هو الذي زاد النار ضراماً. ألخ.
|
الرد على الشبهة وبيان الحقيقة: |
من تأمل كتب ابن تيمية رحمه الله علم يقينًا أنه من أكثر العلماء ثناءً على علي رضي الله عنه، وبيانًا لفضله ومكانته، وأنه لا يقول إلا بما وافق النصوص الصحيحة.
وقد قال في منهاج السنة (ج 7 / ص 515):
"من اعتقد أن عليًّا أفضل الصحابة بعد أبي بكر وعمر فهو مصيب، لأن ذلك هو القول الذي عليه جمهور أهل السنة."
فأين في هذا تنقّص أو انحراف؟ بل هو إنصاف وعدل ودفاع عن مقام الصحابة أجمعين.
|
خاتمة: |
لقد تبيّن أن اتهام شيخ الإسلام ابن تيمية بتنقّص علي رضي الله عنه إنما هو فرية باطلة ناتجة عن سوء الفهم أو سوء القصد.
فمن تأمل نصوصه في منهاج السنة وسائر كتبه، وجدها مليئة بفضائل علي رضي الله عنه والثناء عليه، والتنبيه على أكاذيب الرافضة الذين جعلوا الغلو في علي ذريعة للطعن في باقي الصحابة. فجزى الله شيخ الإسلام خير الجزاء عن دفاعه عن الإسلام وصحابته، ونسأل الله أن يرفع درجته في عليين.
|
المصادر والمراجع: |
◘ ابن تيمية – منهاج السنة النبوية، تحقيق د. محمد رشاد سالم.
◘ ابن حجر العسقلاني – الدرر الكامنة، ولسان الميزان.
◘ ابن حجر الهيتمي – الفتاوى الحديثية.
◘ زاهد الكوثري – الإشفاق، ورد عليه محمد بهجة البيطار في حياة شيخ الإسلام ابن تيمية.
◘ السيد نعمان الألوسي – جلاء العينين في محاكمة الأحمدين.
◘ محمود شكري الألوسي – غاية الأماني في الرد على النبهاني.