من الموضوعات الدقيقة التي تناولها المحدثون والمفسرون في كتبهم مسألة عدد الأحرف التي نزل بها القرآن الكريم، إذ وردت فيها آثار متعددة، منها ما هو صحيح متواتر كحديث الأحرف السبعة، ومنها ما هو ضعيف أو منكر كالأحاديث التي تذكر أن القرآن نزل على أربعة أو خمسة أحرف. وتكمن أهمية هذه الدراسة في بيان مدى صحة الروايات الواردة في هذا الباب، وتوضيح الخلط الحاصل بين معنى الأحرف في لغة الحديث، وبين ما يقصد به من أنواع معاني القرآن وأغراضه.
ومن أشهر ما رُوي في ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: «أُنزل القرآن على أربعة أحرف: حلال، وحرام، لا يُعذر أحد بجهالته، وتفسير تُفسّره العرب، وتفسير تفسّره العلماء، ومتَشابه لا يعلمُه إلا الله، ومن ادّعى علمه فهو كاذب».
وهذا الحديث على الرغم من اشتهاره في بعض الكتب التفسيرية، إلا أن المحدثين ضعفوه سندًا ومتنًا، كما بيّن الإمام الألباني وغيره من أهل النقد الحديثي.
وفي هذا المقال سنعرض نصوص الرواية، ونبين عللها من حيث الرجال والسند، ثم نناقش معناها اللغوي والعقدي، مع مقارنة ذلك بالأحاديث الصحيحة الواردة في نزول القرآن على سبعة أحرف.
|
نص الحديث كما أورده الإمام الطبري |
قال الإمام الطبري في تفسيره (1/36):
" 6163/ م - (أُنْزِلَ القرآنُ على أربعةِ أحرفٍ: حلالٍ، وحرامٍ، لاَ يُعذَر أحدٌ بالجهالة به، وتفسيرٍ تُفسِّرُه العرب، وتفسيرٍ تفسِّره العلماء، ومتشابهٍ لاَ يَعلَمُه إلا اللهُ، ومَنِ ادَّعى علمه سوى اللهِ؛ فهو كاذبٌ).
|
حكم المحدثين على الحديث: |
قال الإمام الألباني رحمه الله:
• ضعيف جداً.
أخرجه ابن جرير الطبري في "تفسيره " (1/36) من طريق الكلبي عن أبي صالح مولى أم هانئ عن عبد الله بن عباس: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:... فذ كره، وقال: "في إسناده نظر".
• قلت: وآفته (الكلبي) - وهو: محمد بن السائب، النسابة المفسر المشهور -:
• قال الذهبي في "المغني ": "تركوه، كذبه سليمان التيمي وزائدة وابن معين، وتركه القطان وعبد الرحمن ".
• وقال الحافظ: "متهم بالكذب، ورمي بالرفض".
وأبو صالح مولى أم هانئ، اسمه: (باذام)، وهو ضعيف.
والحديث رواه ابن جرير من طريق أبي الزناد قال: قال ابن عباس:... فذكره
موقوفاً نحوه. وإسناده ضعيف "
الأحاديث الضعيفة والموضوعة – محمد ناصر الدين الالباني – ج 13 ص 371
|
الرواية الأخرى في "مسند الشاميين" للطبراني: |
وقد جاء هذا الاثر في مسند الشاميين للامام الطبراني:
" 1385 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدوسِ بْنِ كَامِلٍ السَّرَّاجُ، ثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الْبَغْدَادِيُّ حَ وَحَدَّثَنَا عُبَيْدٌ الْعِجْلُ، ثَنَا هَارُونُ بْنُ مُوسَى الْمُسْتَمْلِيُّ، قَالَا: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ، ثَنَا أَبُو سَلَمَةَ سُلَيْمَانُ بْنُ سُلَيْمٍ، ثَنَا أَبُو حُصَيْنٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: " أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى أَرْبَعَةِ وجُوهٍ: فَوَجْهٌ حَلَالٌ وَحَرَامٌ وَلَا يَسَعُ أَحَدًا جَهَالَتُهُ، وَوَجْهٌ تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ، وَوَجْهٌ تَأْوِيلٌ يَعْلَمُهُ الْعُلَمَاءُ، وَوَجْهُ تَأْوِيلٍ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، مَنِ انْتَحَلَ مِنْهُ عِلْمًا فَقَدْ كَذَبَ "
مسند الشاميين – ابو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني – ج 2 ص 320
|
أقوال الأئمة في ضعف أبي صالح (باذام): |
وهذا الاثر ضعيف ايضا، وعلته ابو صالح مولى ام هانيء وهو باذام، ضعيف.
◘ قال الامام البخاري: " 43 - باذام أَبُو صَالح مولى أم هَانِئ الهاشمية أُخْت عَليّ بن أبي طَالب كُوفِي قَالَ بن سِنَان ترك بن مهْدي حَدِيث أبي صَالح..."
الضعفاء – ابو عبد الله محمد بن اسماعيل البخاري – ص 23
◘ وقال الامام النسائي: " 72 - باذام أَبُو صَالح الْكَلْبِيّ ضَعِيف كُوفِي "
الضعفاء والمتروكون – أحمد بن علي بن شعيب النسائي – ص 23
◘ وقال الامام ابن الجوزي: " 489 - باذم وَيُقَال ناذان بن صَالح مولى أم هانىء صَاحب الْكَلْبِيّ كُوفِي يحدث عَن ابْن عَبَّاس وَلم يسمع مِنْهُ ترك ابْن مهْدي حَدِيثه وَقَالَ النَّسَائِيّ ضَعِيف وَقَالَ ابْن عدي لَا أعلم أحدا من الْمُتَقَدِّمين رضيه وَقَالَ أَبُو الْفَتْح الْأَزْدِيّ هُوَ كَذَّاب "
الضعفاء والمتروكون – عبد الرحمن بن علي بن الجوزي – ج 1 ص 135
وقد ذكره الامام الذهبي في ديوان الضعفاء في موضعين، حيث قال: " 544- باذام، أبو صالح: وبالكنية أشهر، ضعيف الحديث. -عه- "
ديوان الضعفاء – محمد بن أحمد الذهبي – ص 44
◘ وقال: " 4953 - أبو صالح باذام. مولى أم هانئ: تركه ابن مهدي: مر -عه- "
ديوان الضعفاء – محمد بن أحمد الذهبي – ص 461
◘ وقال الحافظ ابن حجر: " 634 - باذام بالذال المعجمة ويقال آخره نون أبو صالح مولى أم هانئ ضعيف يرسل من الثالثة 4 "
تقريب التهذيب – أحمد بن علي بن حجر - ج 1 ص 163
|
تحليل المتن ومعناه: |
من حيث المتن، فإن الحديث لا يعارض العقيدة، لكنه لا يثبت عن النبي ﷺ، كما أن معناه يدل على أنواع معاني القرآن ومضامينه، لا على تعدد وجوه القراءة.
فالمقصود أن القرآن نزل مشتملًا على:
1) آيات الأحكام: الحلال والحرام.
2) آيات اللغة والبيان: التي تُفسرها العرب.
3) آيات تحتاج إلى علم العلماء في التأويل.
4) آيات الغيب والمتشابه، التي لا يعلم حقيقتها إلا الله.
فهذا التفسير يدخل ضمن تصنيف موضوعات القرآن، وليس بيانًا للأحرف السبعة الواردة في الحديث الصحيح.
|
المصادر: |
◘ تفسير الطبري – محمد بن جرير الطبري – ج 1 ص 36
◘ مسند الشاميين – أبو القاسم الطبراني – ج 2 ص 320
◘ السلسلة الضعيفة – محمد ناصر الدين الألباني – ج 13 ص 371
◘ الضعفاء – محمد بن إسماعيل البخاري – ص 23
◘ الضعفاء والمتروكون – النسائي – ص 23
◘ الضعفاء والمتروكون – ابن الجوزي – ج 1 ص 135
◘ ديوان الضعفاء – الذهبي – ص 44، 461
◘ تقريب التهذيب – ابن حجر – ج 1 ص 163