تثار بين حينٍ وآخر شبهة باطلة تدّعي أنَّ القرآن الكريم لم يُكتب في حياة النبي ﷺ، وأن جمعه لم يتمّ إلا بعد وفاته. وهذه الدعوى – وإن بدت في ظاهرها استشكالًا تاريخيًّا – فإنها في حقيقتها طعنٌ في حفظ الله تعالى لكتابه العزيز، وجهلٌ بما تواتر من النصوص التي تؤكِّد أن النبي ﷺ كان له كُتّاب للوحي يكتبون بين يديه كلّ ما ينزل من آيات، وأن الجمع في عهد أبي بكر رضي الله عنه لم يكن لجمع شيءٍ مفقود، بل لجمع ما كُتب متفرّقًا في موضعٍ واحدٍ حفظًا وتنظيمًا.

وفي هذا المقال نعرض الشبهة ونفندها بالأدلة الصحيحة من الحديث والتاريخ.

الشبهة:

يزعم بعض الطاعنين أن النبي ﷺ لما قُبض لم يكن في أيدي قومه كتاب، ويستشهدون بقول الزهري عن عبيد عن زيد بن ثابت رضي الله عنه:

"قُبض النبي ﷺ ولم يكن القرآن جُمِع في شيء".

ويستدلّون كذلك بقول عمر رضي الله عنه في قصة جمع المصحف:

"إن القتل قد استحرّ يوم اليمامة بقرّاء القرآن، وإني أخشى أن يستحرّ القتل بالقرّاء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن..."

فيزعمون أن خوف عمر دليل على أن القرآن لم يكن مكتوبًا في حياة النبي ﷺ.

الرد على الشبهة:

إن كلامهم هذا يدل على شدّة الجهل وسوء الفهم، لأن النصوص الصحيحة المتكاثرة تدل على أن القرآن كُتب في حياة النبي ﷺ على مواد متعددة، وإن لم يُجمع في مصحفٍ واحدٍ مرتب السور والآيات.

1-    فقد ورد أن رسول الله ﷺ كان إذا نزلت عليه سورة دعا بعض من يكتب فقال:

((ضعوا هذه السورة في الموضع الذي يُذكر فيه كذا وكذا))[1]. وهذا دليلٌ على اتخاذ النبي ﷺ كُتّابًا للوحي بأمرٍ مباشر منه.

2-    وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال:

"كنا عند رسول الله ﷺ نؤلف القرآن من الرِّقاع"[2]. وهذا نصّ صريح على كتابة القرآن في حضرة النبي ﷺ.

3-    وقال زيد بن ثابت أيضًا:

"فَتَتَبَّعْتُ القُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنَ العُسُبِ وَاللِّخَافِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ"[3]. وهذا يدل على أن القرآن كان مكتوبًا على العُسُب واللِّخاف وهي أدوات الكتابة في ذلك الزمان – إلى جانب الحفظ في الصدور.

4-    وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال:

((لا تكتبوا عني شيئًا سوى القرآن، من كتب عني شيئًا سوى القرآن فليمحه))[4].
وهذا يدل على أن الصحابة كانوا يكتبون القرآن فعلاً، وإلا لم يكن للنهي معنى.

وقد علّق السيوطي رحمه الله بقوله:

"وكان النهي عن كتابة الحديث حين خِيف اختلاطه بالقرآن، فلما أُمن ذلك أُذن فيها، وقيل: مخصوصٌ بكتابة الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة لئلا يختلط على القارئ"[5].

5-    وعن البراء رضي الله عنه قال:

"لما نزلت: ﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ دعا رسول الله ﷺ زيدًا فجاء بكتفٍ فكتبها، فشكا ابن أم مكتوم ضرارته، فنزلت: ﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ﴾" (النساء: الآية 95) [6].

وهذا الحديث نصّ في أن النبي ﷺ كان يدعو الكتبة فور نزول الوحي ليكتبوه في الحال.

6-    كما ورد عن زيد بن ثابت أيضًا أنه قال:

"كنت أكتب الوحي عند رسول الله ﷺ، وكان يَشْتدُّ نَفَسُه ويعرق عرقًا شديدًا مثل الجُمان، ثم يُسرى عنه، فأكتب وهو يُملي عليَّ، فإذا فرغتُ قال: اقرأ، فأقرأه، فإن كان فيه سقطٌ أقامه"[7].
وهذا يدل على دقّة المراجعة بين النبي ﷺ وكُتّابه للوحي، وأن الكتابة كانت بإشرافه المباشر وتصويبه.

معنى قول زيد: (ولم يكن القرآن جُمِع في شيء)

قول زيد رضي الله عنه:"قُبض النبي ﷺ ولم يكن القرآن جمع في شيء"

لا يعني أنه لم يكن مكتوبًا، بل يعني أنه لم يُجمع مرتب الآيات والسور في مصحفٍ واحد، وإنما كان مكتوبًا مفرّقًا في الرقاع والعُسُب واللِّخاف.

توضيح موقف عمر رضي الله عنه

وأما قول عمر رضي الله عنه وخوفه من ذهاب القرآن بموت القرّاء، فليس المقصود به أن القرآن لم يكن مكتوبًا، بل أنه خشي أن يقلّ عدد الحفّاظ الذين يُرجع إليهم في التلقّي، لأن الاعتماد الأساسي في نقل القرآن كان بالحفظ والسماع والتواتر لا بالكتابة وحدها.

فالكتابة كانت وسيلة توثيق، وأما الجمع في عهد أبي بكر فكان جمعًا تنظيميًّا لا تأسيسيًّا، أي جمع ما كُتب متفرقًا في موضعٍ واحدٍ حفظًا من الضياع.

الخلاصة:

إذن، القرآن كُتب في حياة النبي ﷺ على مواد مختلفة، وكان له كتبة للوحي يكتبون ما ينزل عليه من آيات، وكان يراجعهم بنفسه.

أما الجمع في عهد أبي بكر رضي الله عنه فكان جمعًا لمتفرقات الصحف في مصحف واحد، ولم يكن جمعًا لما لم يُكتب من قبل.

وبهذا تسقط شبهة من زعم أن القرآن لم يُكتب في العهد النبوي، ويتضح أن حفظ الله لكتابه كان بالكتابة والحفظ معًا.

الحواشي والمصادر:

[1] الحاكم في المستدرك (2/221) وصححه ووافقه الذهبي.

[2] أحمد في المسند (5/184–185)، والحاكم (2/229)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة حديث رقم (503).

[3] صحيح البخاري (6/183) حديث رقم (4986).

[4] صحيح مسلم (8/229) حديث رقم (3004).

[5] السيوطي، الديباج على صحيح مسلم (6/303).

[6] صحيح البخاري (4/24) حديث رقم (2831).

[7] المعجم الكبير للطبراني (5/142) حديث رقم (4888)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/257): "رواه الطبراني بإسنادين ورجال أحدهما ثقات".