لقد ابتلي تاريخنا الإسلامي ببعض المؤلفات التي لم تلتزم بمنهج التحقيق العلمي ولا بميزان العدالة والإنصاف، ومن أبرزها كتاب العقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي. فقد امتلأ هذا الكتاب بروايات موضوعة وأخبار مختلقة، خاصة فيما يتعلق بالصحابة الكرام رضي الله عنهم، حيث خاض مؤلفه في الفتنة التي وقعت بينهم، وهو أمر نهانا الله ورسوله عن الخوض فيه وأمرنا بالإمساك عنه.
وقد بيَّن العلماء والأئمة الثقات زيف تلك الأخبار وكذبها، وحذروا من اعتماد هذا الكتاب مصدراً موثوقاً. وفي هذا المقال نسلط الضوء على جانب من تلك الأكاذيب، ونبين موقف العلماء منها، مع كشف حقيقة مصادر ابن عبد ربه ومنهجه في تأليف كتابه.
خوضه في الفتنة:
لم يتورع صاحب العقد الفريد عن الخوض في الفتنة التي وقعت بين الصحابة رضي الله عنهم، والتي أمرنا الله تعالى ورسوله ﷺ بالإمساك عنها. وقد ساق أخباراً مكذوبة نسبها إليهم، وقد بين زيفها وضلالها علماء الإسلام الثقات وأئمة الدين الأثبات.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله، وذبَّ الله عن وجهه النار كما ذبَّ عن أصحاب نبيه ﷺ:
«والمظنون بالصحابة خلاف ما يتوهم كثير من الرافضة وأغبياء القصاص، الذين لا تمييز عندهم بين صحيح الأخبار وضعيفها ومستقيمها ومائلها وقويمها»
البداية والنهاية (7/158)
فماذا نقول عن أصحاب رسول الله ﷺ وقد أثنى الله تعالى عليهم في محكم التنزيل فقال:
﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ﴾ [الفتح: 29].
فأي قول بعد قول الله تعالى في مدح الصحابة؟! وأي طعن يمكن أن يلتفت إليه بعد ثناء الله عليهم؟!
وكما قال الشاعر:
ألم تر أن السيفَ ينقصُ قدرَهُ ** إذا قيل إن السيفَ أمضى من العصا
إن هذه الأخبار التي تُمَسُّ بها مكانة الصحابة رضوان الله عليهم لا يصدقها عاقل، ولا يقبلها مؤمن في قلبه مثقال ذرة من إيمان، وإنما هي افتراءات ساقها الأدباء الضلال وأهل الأهواء.
الغناء والنبيذ في العقد الفريد:
ومما نُسب إليه أيضاً: القول بإباحة الغناء، والتساهل في شأن النبيذ، بل ذهب إلى نقل روايات باطلة عن شرب الأنبياء للخمر!
قال الشيخ مشهور حفظه الله تعالى:
«وقد ذكر الأستاذ رشيد رضا في تفسير المنار (5/85) أن هناك شبهة للقائلين بحل الخمر في الأديان السابقة، وهي أن الأنبياء قد شربوها. ثم قال: كما نقل عن ذلك صاحب العقد الفريد وأمثاله من الأدباء الذين يعنون بتدوين أخبار الفساق والمجان وغيرهم».
كتب حذر منها العلماء (2/44)
ويزداد العجب إذا علمنا أن مصادر ابن عبد ربه غير موثوقة، فقد ذكر الشيخ مشهور أنه اعتمد في كتابه على التوراة والإنجيل وكليلة ودمنة وأمثالها!
كما حذر الأستاذ منير محمد الغضبان من هذا الكتاب، وقال إن ابن عبد ربه لم يقصد من تأليفه إلا استهواء الجماهير بالخيال والقصص المثيرة، شأنه شأن القصاصين الذين كانوا يجلسون في المساجد فيخترعون الروايات والأحاديث طلباً لجذب الناس، دون تمييز بين صحيح وباطل.
وبيّن الدكتور عبد الحليم عويس أن هذا الكتاب وأمثاله قد أوجدت حواجز سميكة حالت دون الوصول إلى الحقائق المتصلة بتاريخ بني أمية في المشرق.
وقال الدكتور الطاهر أحمد مكي في دراسة له عن الكتاب:
«إن ابن عبد ربه لا يمحص الأخبار ولا يقف منها موقف الفاحص المدقق، وإنما يعرضها كيفما جاءت. ثم يعرض لأشياء هي إلى الخرافات والأساطير أقرب».
📚 كتب حذر منها العلماء (2/44)
خاتمة:
هذه ترجمة موجزة عن العقد الفريد وصاحبه، من كلام العلماء والأدباء الأثبات، أهديها لطالب العلم الذي لم يَخُض بعد في هذا الكتاب، ليكون على بيّنة وهدى.
وهذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.