يُعد الدكتور طه حسين، عميد الأدب العربي، شخصية فكرية أثارت ولا تزال تثير جدلاً واسعًا. لم يقتصر الجدل على آرائه الأدبية والنقدية الجريئة، بل امتد ليشمل حياته الشخصية ومعتقداته الدينية. هذا المقال يغوص في واحدة من أكثر القضايا حساسية في سيرته: الادعاء باعتناقه المسيحية. سنستعرض الروايات التي نقلها معاصروه، ونحلل شهادات زوجته السيدة سوزان، ونربطها بآرائه الفكرية التي قورنت بأفكار المستشرقين، لنقدم صورة متكاملة عن هذا الجانب الخفي من حياة عميد الأدب العربي.

واقعة (اعتناق طه حسين للنصرانية):

وتحت هذا العنوان يقول المرحوم أحمد حسين: [وقد ذكر الأستاذ فريد شحاتة، موضع سر طه حسين لأربعين سنة، ومن يقرأ له ويكتب له وينفذ في أخصب سنوات حياته، واقعة ضخمة طويلة عريضة. وليتصور الكثيرون أن الخوض فيها قد يعني التعصب الديني أو يجرح شعور زوجة طه حسين. أما نحن الذين لا تنطوي نفسيتنا على ذروة التعصب الديني، وحيث نؤمن بالإسلام كدينٍ يعلو على سائر الأديان، فإن بعض المسيحيين المؤمنين الصادقين يحتلون في نفوسنا مكانة لا يحتلها مسلم. فلا التعصب الديني يؤلف شيئًا في حياتنا، ولا الخوف من جرح إحساس السيدة زوجة الدكتور طه حسين، لسبب بسيط جدًا وهو إجلالنا في صدق وإخلاص للسيدة الفاضلة...].

ويقول أحمد حسين ما قاله الأستاذ فريد شحاتة، سكرتير طه حسين طوال أربعين عامًا: [إن الدكتور طه حسين قد اعتنق النصرانية، وأُقيمت الطقوس المؤدية إلى ذلك في كنيسة قروية بفرنسا...].

ويضيف أحمد حسين: [ونريد قبل أن نمحص هذه الرواية أن نقرر بداءة ذي بدء أن الإنسان الوحيد في هذه الدنيا الذي يمكن أن يكون لتكذيبه وزنٌ في هذه القضية هي شريكة حياته التي تنصّر طه حسين من أجلها. أما بالنسبة لطه حسين نفسه، فإن تكذيبه لهذه الرواية لا ينفع في قليل أو كثير؛ فالرجل الذي قالها هو رجل عمره الأوحد، والمسؤولية لا تقل عن كاهل طه حسين لمجرد أن يقول إن الرجل الذي اصطفاه من دون العالمين قد كذب عليه هذه الكذبة الكبرى بكل هذه البساطة. وقديمًا قالوا: شاهداك قتلاك].

المصدر: الوجه الآخر للدكتور طه حسين - موسوعة الرد على المذاهب الفكرية (140/51)، علي بن نايف الشحود.

حتى لتقول السيدة طه حسين إنه كتب إليها مرة يقول: "إن أبحاثي الشخصية تصل إلى نتائج كبار المستشرقين نفسها. أتدرين أنني قررت ألا أقرأ أبحاثهم إلا بعد أن أنجز أبحاثي لأكون على علم بها فقط".

ومعنى هذا في تقديرنا أن طه حسين قد تمكن من العقيدة الاستشراقية بمفاهيمها إلى الدرجة التي لم تجعله في حاجة إلى أن يقرأ للمستشرقين. ونحن نعجب كيف أن طه حسين طابق المستشرقين أو سبقهم أو تابعهم في آرائه المختلفة:

1-  في رأيه في الشعر الجاهلي الذي سبقه به مرجليوث.

2-  في رأيه في المتنبي الذي سبقه به بلاشير.

3-  في طريقة كتابة "هامش السيرة" التي سبقه بها كاتب مسيحي.

4-  في نظريته في الأدب والنقد التي سبقه بها تين وبرونتير.

5-  في نظرية أن الدين نبت من الأرض ولم ينزل من السماء، كما سبقه بها دوركايم.

6-  في رأيه أن وجود إبراهيم وإسماعيل لا دليل عليه تاريخيًا، وقد سبقه بها هاشم العربي.

المصدر: رسائل أنور الجندي، المجموعة الأولى (3/18).

وتسود مذكرات السيدة سوزان صورة الولاء الأجنبي واضحة، وذلك في عدة مواضع، منها زيارته لإيطاليا واشتراكه في مؤتمر المستشرقين. تقول: "كان المطران تيسيران (ولم يكن قد أصبح كاردينالاً بعد) يعرف طه حسين معرفة جيدة، فأخذه من ذراعه وقال لي مبتسمًا: 'لا تقلقي، سوف أعيده إليكِ'. وكان المطران تيسيران هو الذي قدم طه حسين إلى البابا بيوس الحادي عشر، وكان بيوس الحادي عشر مستشرقًا، وكان قد أراد استقبال مؤتمر المستشرقين، وقد وجه لطه كلمات في منتهى الرقة، كما وجه إليَّ أيضًا مثلها".

وبعد الجلسة الأولى، تنازل (نلينو) عن رئاسة المؤتمر لطه. ونحن نعرف معنى هذا كله، وتقدير هؤلاء جميعًا والكنيسة الكاثوليكية كلها لأفضال طه حسين، ونعرف معنى أن يضعوه على رأس مؤتمر الاستشراق. تقول: "ولم يسبق أن حدث هذا الأمر إطلاقًا". ونحن نعرف أن طه تميز عن جميع الذين اصطنعهم الاستشراق.

المصدر: رسائل أنور الجندي، المجموعة الأولى (4/18).

وكانت السيدة سوزان تعرف مهمة طه حسين، وقد أفلتت العبارات منها أكثر من مرة لتكشف هذا الدور.

فهي تقول: "لم يكن مثله بالذي يقبل أن يقوم بدور محدود". "ثم إن هنا معركته ومستقبله، مهما يكن هنا مصيره ورسالة وجوده".

وتقول في كتاب كتبه لوالدتها: "إننا نصنع على كل حال أشياء ستبقى، ولن يستطيع أحد فيما أظن أن يقوضها".

وتقول: "لما عاد عميدًا من جديد، كانت كل أنواع الأفكار تدور في رأسه، وكان عليه أن يضعها موضع التنفيذ".

وكان هو يقول: "إنكِ تعرفين هذا النوع من الرضا الذي يعقب القيام بالواجب، وأن المرء على مستوى الرسالة التي كُلِّف بها رغم المصاعب التي يواجهها". وكانت تشيد بمحاضراته في الجامعة الأمريكية وجمعية الشبان المسيحيين التي كان يحتشد فيها الألوف.

كان واضحًا من هذه الصورة كلها:

زيارات المستشرقين، والمحادثات الطويلة التي كان يصنع فيها موضوعاته، ومقابلاته هناك والاحتفاء به، وجورج حنين والأب قنواتي الذين يأتون إليه بكل من يمر بالقاهرة من الآباء والكرادلة والمطارنة.

ولكننا نستطيع أن نقول إنه في حدود ما رسمته السيدة سوزان، فإن طه حسين كان يعيش في ثلاثة محاور:

حياة شخصية مادية:

 تتطلب الجهد البالغ لتوفير المادة. وتُجرى التفسيرات كلها حول صورة الفقر ومحاولة الخروج منه، والجري إلى حد الإنهاك في سبيل توفير حياة رضيّة. بينما كان الدكتور طه حسين يحصل على مرتب أستاذ جامعة ومرتب محرر في صحيفة "الأحرار الدستوريين"، فضلاً عن مكافآت كتبه ومقالاته هنا وهناك، وما كانت تقدمه الجامعة له ولزوجته بمثابة بدل سفر وإقامة إلى مؤتمر سنوي للاستشراق أو لغيره. ولا ريب أن هذه الصور التي رسمتها السيدة سوزان مبالغ فيها، وهي توحي بأن الدافع الذي كان يسوق حياة طه حسين هو الكسب المادي، فكان يلهث وراء الموارد لتمكين السيدة من أن تحيا حياة أرستقراطية باذخة.

حياة رجل مريض الأعصاب:

 يسقط بين آن وآن، ويُغمى عليه مرة ومرة، ولا يستطيع أن يقاوم الأحداث، وتفترسه الوحدة والصمت أيامًا كلما ادلهمت الأحداث، ويركع أمام الصورة وأمام الأيقونة ويحدثها، وربما يقول لها كلمة أخرى.

الصورة المغايرة لصورة الصلف والغرور:

والاستعلاء والبطولة الزائفة والشجاعة الكاذبة التي كان طه حسين يصور بها نفسه في مقالاته، بينما تصوره مذكرات زوجته في صورة مغايرة تمامًا.

الصورة الكنسية:

 في أصدقاء كرادلة وآباء ورهبان، وفي أعياد مسيحية، وفي مناسبات غربية، وفي طوابع تومئ بانفصال طه حسين تمامًا عن الحياة المصرية والعربية والإسلامية بكل ملامحها، فكأنه ليس أكثر من رجل مستشرق غربي أجنبي يعيش في بلادنا.

وآية ذلك أنه لم يستطع أن ينقل زوجته وأولاده إلى المحيط العربي، وظلت زوجته إلى اليوم وهي مصرة على وجودها الأجنبي وجوّها الأجنبي، بينما غيرت زوجات كثير من الأدباء الذين تزوجوا بأجنبيات حياتهن. المصدر: رسائل أنور الجندي، المجموعة الأولى (6/18).

هذا هو الذي ينقل عنه البعض ويضعون الشبهات للخداع والتدليس على المسلمين، بأنه عالم كبير من علماء المسلمين وعميد الأدب العربي، ليدلسوا على الناس وهم من أعدى الخلق للإسلام وعمل على تشويهه بكل السبل.

﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ ۗ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَٰكِن لَّا يَعْلَمُونَ [سورة البقرة]