من أبرز ما تناوله ابن خلدون في مقدمته وتاريخه العميق هو قضية الوازع الديني والوازع السلطاني، وكيف انعكس ذلك على أنظمة الحكم في الإسلام بعد عهد الخلفاء الراشدين. فقد أوضح أن الدولة الإسلامية في بداياتها كانت قائمة على الوازع الديني الذي كان كافيًا لضبط سلوك الأفراد والجماعات، ثم مع توسع الملك، وتغلغل العصبيات، برزت الحاجة إلى الوازع السلطاني الذي يقوم مقام الردع السياسي والعصبية لحفظ وحدة الأمة. هذا التحليل العميق يجعلنا نتوقف أمامه طويلاً لفهم طبيعة التحولات السياسية في تاريخ المسلمين، وأثرها على قضايا الخلافة، وولاية العهد، والعصبية، بل وحتى على اختلاف مواقف العلماء والمفكرين من الحاكم والمحكوم.

الوازع الديني والوازع السلطاني

يستعرض ابن خلدون هذه القضية قائلاً:

"ثم إنه وقع مثل ذلك من بعد معاوية من الخلفاء الذين كانوا يتحرون الحق ويعملون به مثل عبد الملك وسليمان من بني أمية، والسفاح والمنصور والمهدي والرشيد من بني العباس وأمثالهم ممن عرفت عدالتهم وحسن رأيهم للمسلمين والنظر لهم، ولا يعاب عليهم إيثار أبنائهم وإخوانهم وخروجهم عن سنن الخلفاء الأربعة في ذلك، فشأنهم غير شأن أولئك الخلفاء، فإنهم كانوا على حين لم تحدث طبيعة الملك وكان الوازع دينياً، فعند كل أحد وازع من نفسه فعهدوا إلى من يرتضيه الدين فقط وآثروه على غيره ووكلوا كل من يسمو إلى ذلك إلى وازعه.

وأما من بعدهم من لدن معاوية فكانت العصبية قد أشرفت على غايتها من الملك والوازع الديني قد ضعف، واحتيج إلى الوازع السلطاني والعصباني. فلو عهد إلى غير من ترتضيه العصبية لردت ذلك العهد وانتقض أمره سريعاً، وصارت الجماعة إلى الفرقة والاختلاف.

سأل رجل علياً رضي الله عنه: ما بال المسلمين اختلفوا عليك ولم يختلفوا على أبي بكر وعمر؟ فقال: لأن أبا بكر وعمر كانا واليين على مثلي، وأنا اليوم والٍ على مثلك. يشير إلى وازع الدين"

ابن خلدون: كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر/ ج1/ص210.

العصبية وأثرها في ولاية العهد

يقول ابن خلدون:

"أفلا ترى إلى المأمون لما عهد إلى علي بن موسى بن جعفر الصادق وسماه الرضا كيف أنكرت العباسية ذلك، ونقضوا بيعته، وبايعوا لعمه إبراهيم بن المهدي، وظهر من الهرج والخلاف وانقطاع السبل وتعدد الثوار والخوارج ما كاد أن يصطلم الأمر حتى بادر المأمون من خراسان إلى بغداد ورد أمرهم لمعاهده.

فلا بد من اعتبار ذلك في العهد، فالعصور تختلف باختلاف ما يحدث فيها من الأمور والقبائل والعصبيات، وتختلف باختلاف المصالح، ولكل واحد منها حكم يخصه لطفاً من الله بعباده"

ابن خلدون: كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر/ ج1/ص211.

صفوة القول:

بعد نهاية هذا التطواف أقول: إن الأستاذ محمد الشنقيطي قد جانبه الصواب عندما خلص إلى النتيجة التالية:

"وإذا كان أخونا صاحب التعليق يراهن على يزيد خير من بعض حكام عصرنا، فكفى يزيداً ذلك ذماً، رغم أني أشك في أن من "افتتح دولته بمقتل الشهيد الحسين، واختتمها بواقعة الحرة" خير من هؤلاء: إن الرجل الذي قتل ستة عشر فرداً من أفراد البيت البنوي جلهم فتيان صغار، واستباح المدينة المنورة وحصد من فيها من بقايا الصحابة بسيفه الغادر.. لهو من شرار خلق الله بدون ريب".

لكن هذه النتيجة التي وصل إليها الشنقيطي تخالف ما استهل به مقاله بقوله:

"وهذه ظاهرة شائعة للأسف بين بعض الشباب المتدين، الذين تصاغ أفكارهم من وراء ستار، على أيدي الحكام الظلمة، الباحثين عن شرعية لظلمهم في التاريخ الإسلامي والشرع الإسلامي".

ثم استشهد بقوله تعالى: ﴿رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ.

وهنا تبرز الأسئلة المشروعة:

 أين هو من مظاهرة ونصرة أهل الحق المظلومين من قبل طواغيت العرب والعجم؟ أين استنكاره لما حدث للشيخ عمر عبد الرحمن في سجون أمريكا؟ أين بياناته عن المظلومين من شباب الأمة الذين يُقتلون ويُسجنون ظلماً وعدواناً؟

ثم إن المقارنة بين يزيد بن معاوية وحكام اليوم لا تستقيم؛ فـيزيد عند كثير من علماء السنة وُصف بالفسق، لكنه لم يكن مرتداً ولم يبدل الشريعة بالقوانين الوضعية. أما حكام اليوم فقد استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، فكيف يكونون خيراً منه؟

إن شباب الأمة لا يتخذون يزيد ولا غيره من ملوك العرب قدوة لهم، بل قدوتهم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً.

وهؤلاء الشباب هم أمل الأمة، وهم أبعد الناس عن مظاهرة المجرمين من الحكام وأعوانهم، بل هم الحكماء حقاً لأنهم يضعون الأمور في مواضعها، بينما غيرهم يزين الباطل ويزيف التاريخ.

الخاتمة

يتضح مما سبق أن ابن خلدون قدّم تحليلاً دقيقاً للتحولات السياسية في التاريخ الإسلامي بين الوازع الديني والوازع السلطاني، وأن العصبية لعبت دوراً محورياً في استمرار الحكم بعد الخلفاء الراشدين. كما أن المقارنة بين يزيد بن معاوية وحكام العصر الحديث غير منصفة، إذ لا وجه للمقارنة بين فاسق وظالم، وبين من استبدل شريعة الله بالقوانين الوضعية. والواجب على العلماء والمفكرين أن يكونوا أنصار الحق، بعيدين عن مظاهرة المجرمين، مصداقاً لقوله تعالى: ﴿رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ.