قال الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ [النساء: 59]
هذه الآية الكريمة جاءت نكرة في سياق الشرط، والنكرة في هذا الموضع تفيد العموم، أي أن التنازع يشمل جميع الأمور: صغيرها وكبيرها، ظاهرها وخفيها. ولذلك، فإن الله سبحانه أمر عباده عند التنازع بالرجوع إلى مصدر واحد للفصل: كتاب الله وسنة رسوله ﷺ.
فلو لم يكن في كتاب الله وسنة نبيه كفاية وشفاء لما تنازع فيه الناس، لما أمر الله بالرد إليهما. وهذا يدل بوضوح على كمال الدين، واكتمال الرسالة، وكفاية الوحي لحسم كل نزاع بين المسلمين.
وهذا ما قرره الإمام ابن القيم رحمه الله بقوله:
"إنَّ النَّاسَ أَجْمَعُوا أَنَّ الرَّدَّ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ هُوَ الرَّدُّ إِلَى كِتَابِهِ، وَالرَّدَّ إِلَى الرَّسُولِ ﷺ هُوَ الرَّدُّ إِلَيْهِ نَفْسِهِ فِي حَيَاتِهِ وَإِلَى سُنَّتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ" [إعلام الموقعين، ج1، ص39].
وهذا الفهم لم يبتدعه علماء أهل السنة، بل هو فهمٌ مأثور عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، كما جاء في "نهج البلاغة": "وَلَمَّا دَعَانَا الْقَوْمُ إِلَى أَنْ نُحَكِّمَ بَيْنَنَا الْقُرْآنَ لَمْ نَكُنِ الْفَرِيقَ الْمُتَوَلِّيَ عَنْ كِتَابِ اللهِ، وقَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ)، فَرَدُّهُ إِلَى اللهِ أَنْ نَحْكُمَ بِكِتَابِهِ، وَرَدُّهُ إِلَى الرَّسُولِ أَنْ نَاخُذَ بسُنَّتِهِ" [نهج البلاغة، ج2، ص5].
وهذا النص من علي رضي الله عنه يقطع الطريق على من يُحرّف الآيات أو يزعم أن المقصود بأولي الأمر هم الأئمة المعصومون فقط.
الرد على مزاعم التحريف:
إن الشيعة الإمامية يرفضون تفسير الآية بما أجمع عليه أهل السنة، بل يُحاولون صرف دلالتها إلى فكرة الإمامة، ويزعم بعض علمائهم أن جزءًا من الآية قد سقط، أو حُذف عمدًا، أو أن المراد بأولي الأمر في سياق التنازع هم الأئمة المعصومون من آل البيت.
وهذا مسلك باطل شرعًا ولغةً، لأن الله سبحانه لم يأمر عند النزاع بالرجوع إلى أولي الأمر، بل أمر بالرجوع إلى الله والرسول، أي إلى الكتاب والسنة، وهذا ما يُبطِل دعوى العصمة المطلقة لمن سواهما.
وقد بيّن شيخ الإسلام ابن تيمية ذلك فقال:
"لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ الْعِصْمَةَ عِنْدَ تَنَازُعِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا فِي الرَّدِّ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَكُلُّ أَحَدٍ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إلَّا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الَّذِي لَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى" [مجموع الفتاوى، ج32، ص120].
الفهم الصحيح لطاعة أولي الأمر:
إن طاعة أولي الأمر -كما في الآية التي سبقت هذه- مشروطة وليست مطلقة، ولا تُقدَّم على طاعة الله ورسوله، بل تدخل ضمنها.
قال ابن تيمية رحمه الله:
"فَأَمَرَ بِطَاعَةِ اللَّهِ مُطْلَقًا، وَأَمَرَ بِطَاعَةِ الرَّسُولِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْمُرُ إِلَّا بِطَاعَةِ اللَّهِ، وَجَعَلَ طَاعَةَ أُولِي الْأَمْرِ دَاخِلَةً فِي ذَلِكَ، فَلَا يُطَاعُ وَلِيُّ الْأَمْرِ إِلَّا فِي الْمَعْرُوفِ" [منهاج السنة، ج3، ص387].
بل قال أيضًا:
"فَلَا يُطَاعُ مَخْلُوقٌ طَاعَةً مُطْلَقَةً إِلَّا هُوَ - صلى الله عليه وسلم -" [منهاج السنة، ج3، ص490].
التحذير من الزعم بتحريف القرآن:
القول بأن جزءًا من الآية حُذف أو سقط أو غُيّر هو طعن في القرآن كله.
وهو تكذيب لوعد الله بحفظ كتابه:
﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9]
ولو جاز قبول مثل هذا الطعن، لانهار أساس الدين، ولَمَا بقي في الإسلام مرجع يُحتكم إليه.
إجماع الصحابة والتابعين:
أجمعت الأمة منذ عهد الصحابة على أن القرآن محفوظ، وأن هذه الآية تنص على أن المرجع عند النزاع هو الكتاب والسنة، وليس أشخاصًا مهما علت منزلتهم.
ولذلك قال الإمام الشافعي:
"أجمعت الأمة أن من استبانت له سنة رسول الله ﷺ لم يكن له أن يدعها لقول أحد".
الخلاصة:
• الآية {فإن تنازعتم في شيء} نصٌّ محكم يفيد الرجوع إلى الكتاب والسنة عند الاختلاف.
• لا يوجد فيها ما يدل على الرجوع إلى الأئمة أو أولي الأمر عند النزاع.
• القول بالتحريف طعن في الدين وكفرٌ صريح يُناقض وعد الله بالحفظ.
• أهل السنة يُفسرون القرآن بفهم الصحابة، ويجمعون على كفايته في كل نزاع.
المصادر:
• القرآن الكريم.
• إعلام الموقعين، ابن القيم، ج1، ص39.
• نهج البلاغة، الشريف الرضي، ج2، ص5.
• مجموع الفتاوى، ابن تيمية، ج32، ص120.
• منهاج السنة النبوية، ابن تيمية، ج3، ص387، 490.