الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على سيدنا محمدٍ خاتمِ الأنبياءِ والمرسلين، وعلى آله وصحبِه أجمعين، وبعدُ:
فقد دأبت الفرقةُ الضالّة عبر القرون على إثارة الشبهات حول خيار هذه الأمة من الصحابة الكرام، الذين زكَّاهم اللهُ في كتابه، ومدحهم نبيُّه ﷺ في سنَّته، ومن أعظم ما افترَوه اتهامُهم لعائشة وحفصة رضي الله عنهما بالتآمر على قتل النبي ﷺ، مستدلين بآيات من سورة التحريم، قال تعالى:
﴿وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا، فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ﴾ (التحريم: ٣).
وزعموا أن الحديث المسرّ هو تبشير النبي ﷺ بخلافة أبي بكرٍ وعمرَ بعده، وأن إفشاء هذا السرّ كان سببًا لتآمرهم عليه.
وهذه فريةٌ عظيمةٌ تهدف إلى الطعن في نقلة الدين وعدول الأمة، وتهديم أصل الثقة بالصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
وفي هذا البحث نُبيّن بإذن الله بطلان هذه الشبهة نصًّا وعقلاً وتاريخًا، ونُثبت أنّها من أضعف الافتراءات، وأن القوم لا يستندون إلى علمٍ ولا أثرٍ صحيح.
مضمون الشبهة:
يدّعي بعضُ المغرضين من أتباع الفرقة الضالّة أنّ عائشةَ وحفصةَ رضي الله عنهما تآمرتا مع أبويهما أبي بكرٍ وعمرَ رضي الله عنهم جميعًا على قتل النبي ﷺ بالسمّ، وذلك – على زعمهم – بعدما أفشت إحداهما سرًّا أسرَّه النبي ﷺ إليها، وهو أنّه بشّرها بتولية أبي بكرٍ وعمرَ الخلافة من بعده، وأن هذا هو المقصود في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا﴾ (التحريم: ٣).
وزعموا أن الله تعالى عاقبهم بقوله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ (التحريم: ٧)،
أي – بزعمهم – أن الآية نزلت توبيخًا لهم على فعلتهم هذه، وأنهم كفروا بسببها!
وغرضهم من وراء ذلك الطعن في عدالة أبي بكرٍ وعمرَ رضي الله عنهما، وفي طهارة عائشةَ وحفصةَ رضي الله عنهما.
وجوه إبطال الشبهة إجمالًا:
1) الحديث المسرّ الذي في الآية لا علاقة له بالخلافة أصلًا، وإنما هو في شأنٍ أسريٍّ خاص بالنبي ﷺ، كما نصّ عليه جمهور المفسرين.
2) القول بتآمر أبي بكرٍ وعمر وابنتيهما على قتل النبي ﷺ افتراءٌ عظيمٌ يُكذّبه التاريخ والعقل، فهؤلاء كانوا من أشدّ الناس حبًّا للنبي ﷺ وافتداءً له.
3) الآية السابعة من سورة التحريم لا علاقة لها بالقصة، بل تتحدث عن الكفار يوم القيامة، كما قرّر ابن كثير في تفسيره.
4) سير الصحابة وأفعالهم الثابتة تنفي كلَّ شبهةٍ من هذا النوع، إذ كانوا يفدونه بأرواحهم وأموالهم، ولا يُتصوّر منهم التآمر عليه.
التفصيل:
أولًا: بيان الحديث المسرّ في الآية الكريمة
ثبت في صحيح البخاري أن المرأتين اللتين تظاهرتا على النبي ﷺ هما عائشةُ وحفصةُ رضي الله عنهما. فقد روى البخاري عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال:
«أردت أن أسأل عمرَ رضي الله عنه، فقلت: يا أمير المؤمنين، من المرأتان اللتان تظاهرتا على رسول الله ﷺ؟ فما أتممت كلامي حتى قال: عائشةُ وحفصةُ»(1).
لكن ما نوع هذا التظاهر؟ وما الحديث المسرّ الذي أسره النبي ﷺ؟
جمهور المفسرين على أن الحديث كان في تحريم النبي ﷺ لمارية القبطية على نفسه تطييبًا لنفس حفصة رضي الله عنها، أو في تحريمه ﷺ شرب العسل عند زينب بنت جحش فيما عُرف بـ “قصة المغافير”.
قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾
﴿قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾
﴿وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَٰذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ﴾ التحريم: 1–3.
وقد بنى المغرضون شبهتهم على هذه الآيات، فافتروا على الله الكذب وزعموا أن الحديث هو تبشير النبي ﷺ بخلافة أبي بكرٍ وعمرَ، وهذا باطلٌ بإجماع المفسرين، إذ لو كان كذلك لاحتجّ به أبو بكرٍ يوم السقيفة، ولم يُنقل عنه ذلك(2).
ثانيًا: معنى قوله تعالى: ﴿فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾ (التحريم: ٤)
قال الله تعالى في عتابٍ لطيفٍ لعائشةَ وحفصةَ رضي الله عنهما: ﴿إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ﴾ (التحريم: ٤).
وهذه الآية تدلُّ على أن ما وقع من أمّ المؤمنين كان ذنبًا يسيرًا في نطاق الزوجية، وليس كفرًا ولا تآمرًا، كما تزعم الفرقة الضالّة.
قال الإمام القرطبي في تفسيره:
"المعنى: قد مالت قلوبكما عن الصواب في ميلهما إلى محبّة ما كره النبي ﷺ، وليس في الآية ما يدلّ على كفرٍ ولا نفاقٍ"(3).
وقال الطبري:
"إن تتوبا إلى الله من ميلكما عن الحق فيما فعلتما من مظاهرة إحداكما الأخرى على النبي ﷺ، فقد مالت قلوبكما عن الرشد"(4).
فدلّ ذلك على أن الخطأ كان عاطفيًا لا عقديًا، وأن الله تعالى دعاهما إلى التوبة لا إلى التكفير، ولو كان في فعلهما ما يُنافي الإيمان لما أثبت الله لهما وصف الزوجية والاصطفاء.
إذ قال بعدها مباشرة: ﴿عَسَىٰ رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ﴾ (التحريم: ٥).
ولو كانتا كافرتين – كما يزعم المبطلون – لما خُيّر النبي ﷺ بين فراقهما أو الإبقاء عليهما، بل لأمره اللهُ بفراقهما فورًا كما فعل مع أزواج الكافرين من قبل.
ثالثًا: نفي تهمة القتل عن أمهات المؤمنين والصحابة
إن دعوى تآمر عائشةَ وحفصةَ مع أبويهما على قتل النبي ﷺ من أشنع الكذب وأغلظه، إذ لم يرد في أيِّ مصدرٍ معتبرٍ من كتب الإسلام – سُنِّيها أو غيرها – أثرٌ صحيحٌ أو ضعيفٌ يدل على ذلك.
بل الثابت من السيرة النبوية والحديث الصحيح ما يُبطل هذا الزعم من أساسه:
1- كان أبو بكرٍ رضي الله عنه أولَ من أنفق ماله كله في سبيل الله، ورافق النبي ﷺ في الهجرة، فلو أراد إيذاءه ما خاطر بنفسه في الغار، حيث قال تعالى: ﴿إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ (التوبة: ٤٠).
فسمّاه الله صاحبَه، وهي أعظم منزلةٍ في القرب.
2- وكان عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه من أشدّ المدافعين عن النبي ﷺ في مكة والمدينة، وقد قال عنه النبي ﷺ: «لو كان نبيٌّ بعدي لكان عمر» (رواه الترمذي) (5).
فكيف يُعقل أن يتآمر مثل هذا الرجل على من أحبَّه أكثر من نفسه؟
3- أما عائشةُ رضي الله عنها فقد شهد الله لها بالطهارة في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ... أُولَٰئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ﴾ (النور: ١١–٢٦).
فبرّأها اللهُ من أعظم التهم وهي الزنا، فكيف يُتوهَّم منها ما هو أعظم من ذلك؟
4- وكذلك حفصةُ بنتُ عمرَ كانت من الصالحات القانتات، حتى أطلق عليها جبريلُ عليه السلام – كما في الحديث –:
«إنها صوّامة قوّامة، وإنها زوجتك في الجنة» (رواه الحاكم وصححه)(6).
فهل يعقل أن يوصف من تآمر على النبي ﷺ بهذا الوصف؟!
رابعًا: تفسير قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ﴾ (التحريم: ٧)
من الأخطاء الفاحشة عند مثيري الشبهة أنهم ظنّوا أن الخطاب في هذه الآية موجه إلى عائشةَ وحفصةَ رضي الله عنهما!
والصواب أنها آية عامة في الكفار يوم القيامة، لا علاقة لها بأمهات المؤمنين.
قال ابن كثير في تفسيره:
"هذا خطاب للكافرين يوم القيامة حين يُساقون إلى النار، فيُوبَّخون ويقال لهم: ﴿لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ﴾، أي لا ينفعكم العذر بعد ظهور الحجة عليكم"(7).
فهذا تأكيد من القرآن أن الكلام انتقل من قصة الزوجتين إلى وصف حال الكافرين، وليس استمرارًا في الحديث عنهما، كما يفهم كل من له أدنى علم بالتفسير والسياق.
خامسًا: الأدلة العقلية والتاريخية على بطلان الشبهة
تاريخيًا: لم يُنقل في أي مصدر معتبر أن النبي ﷺ مات مسمومًا على يد إحدى أزواجه، بل الثابت أنه قال في مرض موته:
«ما زلتُ أجد ألم الطعام الذي أكلتُ بخيبر» (رواه البخاري)(8)،
أي أن السمّ الذي ناله كان من اليهودية بخيبر، لا من زوجاته، وهذا تصريحٌ صريحٌ منه ﷺ.
عقليًا: لا يُعقل أن تتآمر امرأتان ضعيفتان على رجلٍ مؤيَّدٍ بالوحي، تحفّه الملائكة، والله يقول: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ (المائدة: ٦٧).
فهل يعقل أن يُترك النبي ﷺ دون حفظ من الله حتى يُقتل سرًّا في بيته؟!
إن هذا كفرٌ بآيات العصمة.
أخلاقيًا: إن كانت أمّهات المؤمنين – وهنّ في بيت النبوة – بهذه الصورة البشعة التي يصوّرها المفترون، فكيف يأمر الله المؤمنين بتوقيرهن وتسميتهن أمهات المؤمنين في قوله تعالى: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾ (الأحزاب: ٦)؟
وهل يُكرم الله من خانت أو كفرت بهذه المنزلة؟!
سادسًا: الرد على فرية سرقة ابن عباسٍ للمال وإغلاظه لعائشة رضي الله عنها
هذه شبهة أخرى تلازم الشبهة السابقة في بعض منشوراتهم، زعموا فيها أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما سرق مالًا وأغلظ القول لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
وهذا باطلٌ لا أصل له، بل الروايات الصحيحة تُثبت خلافه تمامًا.
قال ابن كثير في "البداية والنهاية"(9):
"إنما كان بين ابن عباسٍ وعائشةَ مناظرةٌ علميةٌ في مسائل اجتهادية، ولم يقع بينهما سبٌّ ولا فُحش، وما نُقل من ألفاظٍ شديدة فمحمولٌ على الجدال لا العداء".
وكان ابن عباسٍ من أكثر الناس توقيرًا لأمهات المؤمنين، وكان يقول عنها:
"أمُّ المؤمنين حبيبةُ رسول الله ﷺ، أكرمَها اللهُ بالطُّهر والبراءة".
أما زعم السرقة، فليس له سند في أي مصدر معتبر من كتب السنة أو التاريخ، وإنما اختلاقٌ متأخر من بعض أهل الأهواء في القرون المتأخرة، أرادوا به تشويه صورة آل البيت وأصحاب النبي جميعًا.
الخاتمة:
يتّضح مما سبق أن دعوى تآمر عائشةَ وحفصةَ رضي الله عنهما – ومعهما أبواهما أبو بكرٍ وعمرُ – على قتل النبي ﷺ، هي من أكذب وأخبث الشبهات التي تروّجها الفرقة الضالّة، وأنها لا تقوم على نصٍّ صريحٍ ولا أثرٍ صحيحٍ ولا عقلٍ سليم.
وقد تبيّن بالبحث أن:
1. الآيات في سورة التحريم تتحدث عن حادثة أسرية لا سياسية.
2. أن الله تعالى تاب عليهما وقبل توبتهما، ولم يذكر عنهما كفرًا.
3. أن سياق الآيات اللاحقة يتحدث عن الكفار عمومًا، لا عن أمهات المؤمنين.
4. أن الأحاديث الصحيحة والتاريخ المتواتر ينفيان تمامًا وقوع أي مؤامرةٍ من هذا النوع.
5. أن ما يُروّج في هذا الباب محض أكاذيب لا تستند إلى علمٍ ولا عقل.
فجزى اللهُ أمهات المؤمنين خير الجزاء، ورضي عن أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعليٍّ وسائر الصحابة أجمعين، الذين نقلوا لنا الدين وحفظوا سنة سيد المرسلين ﷺ.
المصادر والمراجع:
1. صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب ﴿وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثًا﴾.
2. تفسير ابن كثير، دار طيبة، ج8، ص169.
3. تفسير القرطبي، ج18، ص195.
4. جامع البيان للطبري، ج28، ص153.
5. سنن الترمذي، كتاب المناقب، باب مناقب عمر بن الخطاب.
6. المستدرك على الصحيحين للحاكم، ج4، ص15.
7. تفسير ابن كثير، ج8، ص172.
8. صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب مرض النبي ووفاته.
9. البداية والنهاية لابن كثير، ج8، ص90.