من المسائل التي شغلت الباحثين في السيرة النبوية وأحاديثها: سبب سجود المشركين مع النبي ﷺ عند تلاوته لسورة النجم، رغم أنهم لم يكونوا معتادين على الخضوع معه ولا الإقرار بما جاء به. وقد استغل بعض أهل الأهواء هذه الحادثة للطعن في عصمة النبي ﷺ من خلال رواية باطلة تُعرف بـ"قصة الغرانيق". إلا أن المحققين من أهل العلم، ومنهم العلامة الآلوسي، قد بيّنوا فساد هذا الاستدلال، ووضحوا أن سجود المشركين لم يكن لاعتقادهم بالحق أو لإيمانهم، وإنما كان بدافع الخوف والدهشة عند سماع آيات الوعيد الشديد في السورة، والتي هزّت قلوبهم وأثارت فيهم الرهبة من نزول العذاب. ومن ثمّ فإن هذه الحادثة لا تصلح أن تكون دليلاً على ثبوت القصة المكذوبة، بل هي تأكيد على عظمة القرآن وتأثيره حتى في قلوب أعدائه.
سبب سجود المشركين مع النبي صلى الله عليه وسلم:
رب سائل يقول: إذا ثبت بطلان إلقاء الشيطان على لسانه عليه الصلاة والسلام جملة "تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى"
فَلِمَ إذن سجد المشركين معه صلى الله عليه وسلم وليس ذلك من عادتهم؟
والجواب:
ما قاله المحقق الآلوسي بعد سطور من كلامه الذي نقلته آنفًا: "وليس لأحد أن يقول: إن سجود المشركين يدل على أنه كان في السورة ما ظاهره مدح آلهتهم، وإلا لما سجدوا، لأننا نقول: يجوز أن يكونوا سجدوا لدهشة أصابتهم وخوف اعتراهم عند سماع السورة لما فيها من قوله تعالى: ﴿وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى، وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى، وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى، فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى﴾ إلى آخر الآيات [النجم: 50-40].
مقالات السقيفة ذات الصلة: |
ضعف أسانيد تفسير "الشجرة الملعونة" إلى بني أمية الروحاني يقر بأن القرآن مخلوق!! |
فاستشعروا نزول مثل ذلك بهم، ولعلهم لم يسمعوا قبل ذلك مثلها منه صلى الله عليه وسلم، وهو قائم بين يديْ ربه سبحانه في مقام خطير وجمع كثير، وقد ظنّوا من ترتيب الأمر بالسجود على ما تقدم أن سجودهم ولو لم يكن عن إيمان، كافٍ في دفع ما توهَّموه، ولا تستبعد خوفهم من سماع مثل ذلك منه صلى الله عليه وسلم، فقد نزلت سورة "حم السجده" بعد ذلك كما جاء مصرّحا به في حديث عن ابن عباس. ذكره السيوطي في أول "الإتقان" فلما سمع عُتبة بن ربيعة قوله تعالى فيها: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ﴾ [فصّلت: 13]! أمسك على فم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وناشده الرحم واعتذر لقومه حين ظنوا به أنه صبأ وقال: "كيف وقد علمتم أن محمدًا إذا قال شيئًا لم يكذب؟ فخفت أن ينزل بكم عذاب" وقد أخرج ذلك البيهقي في "الدلائل" وابن عساكر في حديث طويل عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
ويمكن أن يقال على بعد: إن سجودهم كان لاستشعار مدح آلهتهم، ولايلزم منه ثبوت ذلك الخبر، لجواز أن يكون ذلك الاستشعار من قوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ ص -70-الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى﴾ [النجم: 19-20]، بناء على أن المفعول محذوف وقدّروه حسبما يشتهون، أو على أن المفعول: ﴿أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى﴾ [النجم: 21]. وتوهّموا أن مصب الإنكار فيه كون المذكورات إناثًا، والحب لشيء يعمي ويُصمّ، وليس هذا بأبعد من حملهم "تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى" على المدح حتى سجدوا لذلك آخر السورة، مع وقوعه بين ذمين المانع من حمله على المدح في البين كما لا يخفى على من سلمت عين قلبه من الغين".