يزعم الشيعة الإمامية أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه معصوم كالنبي، لا يخطئ ولا يذنب، وأن قوله وفِعله حجة لا يرد. غير أن أقوال علي وأفعاله، بل ومواقف أهله وأصحابه معه، تنقض هذه الدعوى من أساسها. فقد كان رضي الله عنه يعترف بذنبه، ويستغفر ربه، ويخاف على سلامة دينه، ويصرّح بأنه غير معصوم من الخطأ، داعياً أصحابه إلى نصحه ومراجعته إن أخطأ. كما كان يستشيرهم في الأمور الكبرى، وقد خالفوه غير مرة، بل وفرضوا عليه آراءهم كما في صفين والتحكيم. بل إن ابنه الحسن وعبد الله بن جعفر وابن عباس رضي الله عنهم ناقشوه وخالفوه في قراراته، ولم يروا له عصمة تمنعهم من الاعتراض عليه. هذه الوقائع، من مصادر الشيعة والسنة معاً، تكشف أن علياً رضي الله عنه لم يدّع العصمة لنفسه، ولا ادعاها له أصحابه، وإنما هي بدعة متأخرة نسبها القوم إليه.
وأما علي بن أبي طالب رضي الله عنه فإليك شيئاً من فعله وقولـه مما يتعارض مع ما يدعيه القوم له:
♦ منها: اعترافه بذنبه، وخوفه من سلامة دينه، والروايات في ذلك كثيرة، كقولـه: إلهي، كيف أدعوك وقد عصيتك([1]).
وقولـه: إلهي.. كم من موبقة حلمت عن مقابلتها بنقمتك! وكم من جريرة تكرمت عن كشفها بكرمك!
إلهي.. إن طال في عصيانك عمري وعظم في الصحف ذنبي، فما أنا مؤمل غير غفرانك، ولا أنا براج غير رضوانك.. إلهي، أفكر في عفوك فتهون علي خطيئتي، ثم أذكر العظيم من أخذك فتعظم علي بليتي.. آه إن أنا قرأت في الصحف سيئةً أنا ناسيها وأنت محصيها! فتقول: خذوه، فياله من مأخوذ لا تنجيه عشيرته، ولا تنفعه قبيلته، يرحمه الملأ إذا أذن فيه بالنداء.. آه من نار تنضج الأكباد والكلى.. آه من نار نزاعة للشوى.. آه من غمرة من ملهبات لظى.
ثم قال لأبي الدرداء:
فكيف ولو رأيتني ودعي بي إلى الحساب، وأيقن أهل الجرائم بالعذاب، واحتوشتني ملائكة غلاظ وزبانية فظاظ، فوقفت بين يدي الملك الجبار، قد أسلمني الأحباء ورحمني أهل الدنيا، لكنت أشد رحمة لي بين يدي من لا تخفى عليه خافية([2]).
وسئل: كم تتصدق؟ كم تخرج مالك؟ ألا تمسك؟ قال: إني والله لو أعلم أن الله تعالى قبل مني فرضاً واحداً لأمسكت، ولكني لا أدري أقبل سبحانه مني شيئاً أم لا([3]).
وعندما أخبره صلى الله عليه وسلم بمقتله قال رضي الله عنه: يا رسول الله، في سلامة من ديني؟ قال صلى الله عليه وسلم: في سلامة من دينك([4]).
وكان يقول: أسال الله أن لا يسلبني ديني ولا ينزع مني كرامته([5]).
وتمنى أنه من الأربعة الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الجنة تشتاق إلى أربعة، فقال: والله لأسألنه، فإن كنت منهم لأحمدن الله عز وجل، وإن لم أكن منهم لأسألن الله أن يجعلني منهم([6]).
ولا زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره بغفران الله لذنوبه.
ففي رواية:
أنه صلى الله عليه وسلم خرج يوم عرفة وهو آخذ بيده رضي الله عنه، فقال: يا معشر الخلائق، إن الله تبارك وتعالى باهى بكم في هذا اليوم ليغفر لكم عامة، ثم التفت إلى علي، فقال له: وغفر لك يا علي خاصة([7]).
فالمغفرة تقتضي الذنوب، وصرف الثاني عن ظاهره يقتضي بالضرورة صرف الأول، فتأمل!
وقال صلى الله عليه وسلم: إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: أين علي بن أبي طالب؟ فيؤتى به فيحاسب حساباً يسيراً([8]).
فلا غرابة إذاً أن يردد ويقول رضي الله عنه: لا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل، فإني لست في نفسي بفوق أن أخطيء، ولا آمن من ذلك من فعلي([9]).
فهو رضي الله عنه لم يدع العصمة لنفسه أصلاً ولا ادعاها له أحد من أصحابه، ولا زال أصحابه يخالفونه في كثيرٍ من أفعاله وأقواله، ولم يكن يحتج عليهم بأنه معصوم، بل كثيراً ما يردد: اسمعوا مني ما أقول لكم، فإن يكن حقاً فاقبلوه، وإن يكن باطلاً فأنكروه.
♦ وفي رواية:
فإن قلت حقاً صدقتموني، وإن قلت باطلاً ردوا علي ولا تهابوني، إنما أنا رجل كأحدكم.
وفي أخرى: إنما أنا رجل منكم، فإن قلت حقاً فصدقوني، وإن قلت غير ذلك فردوه علي([10]).
وكان رضي الله عنه يفتقر إلى آراء أصحابه ويستشيرهم، فلما كتب إليه معاوية: إن كنت تريد الصلح فامح عنك اسم الخلافة، فاستشار بني هاشم([11]).
من مقالات السقيفة: |
معنى الركوع في القرآن بين الخضوع والعبادة الامامة والائمة والعصمة والمهدي |
وفي رواية:
قال الأحنف بن قيس: لا تمح هذا الاسم فإني أتخوف إن محوته لا يرجع إليك أبداً، فامتنع رضي الله عنه من محوه، فتراجع الخطاب فيه ملياً من النهار.
فقال الأشعث بن قيس: امح هذا الاسم نزحه الله([12]).
وكان يقول لطلحة والزبير رضي الله عنهما:
لو وقع حكم ليس في كتاب الله بيانه، ولا في السنة برهانه، واحتيج إلى المشاورة فيه لشاورتكما فيه([13]).
ولما أراد المسير إلى الشام دعا من كان معه من المهاجرين والأنصار فجمعهم، ثم حمد الله وأثنى عليه، وقال: أما بعد، فإنكم ميامين الرأي، مراجيح الحلم، مباركو الأمر، مقاويل بالحق، وقد عزمنا على المسير إلى عدونا وعدوكم فأشيروا علينا برأيكم. فقام هشام بن عتبة، وعمار بن ياسر، وقيس بن سعد بن عبادة، وسهل بن حنيف، فصوبوا رأيه وبذلوا إليه نصرته([14]).
فلم يكن يرى أبداً أنه معصوم مستغنٍ عن مشورة غيره وكذا أصحابه، وإليك المزيد:
لما سار إلى معاوية بصفين مكث أياماً لا يرسل إلى معاوية أحداً ولا يأتيه من عنده أحد، قال أهل العراق: يا أمير المؤمنين، خلفنا نساءنا وذرارينا بالكوفة، وجئنا إلى أطراف الشام نتخذها وطناً، فأْذن لنا بالقتال، فإن الناس يظنون أنك تكره الحرب كراهية الموت، ومنهم من يظن أنك في شك من قتال أهل الشام([15]).
وهذا هاشم لما صرع في صفين مرَّ على رجلٍ، فقال وهو صريع بين القتلى: أقرئ أمير المؤمنين السلام ورحمة الله، وقل له: أنشدك الله إلا أصبحت وقد ربطت مقاود خيلك بأرجل القتلى، فإن الدبرة تصبح غداً لمن غلب على القتلى، فأخبر الرجل علياً بذلك، فسار علي رضي الله عنه في بعض الليل حتى جعل القتلى خلف ظهره وكانت الدبرة له عليهم([16]).
ولما أراد المسير إلى الشام اجتمع إليه وجوه أصحابه، فقالوا: لو كتبت يا أمير المؤمنين إلى معاوية وأصحابه قبل مسيرنا إليهم كتاباً تدعوهم إلى الحق، وتأمرهم بما لهم من الحظ تزداد عليهم قوة، فكتب إليه([17]).
ولما عزم على الخروج من الكوفة إلى الحرورية وكان في أصحابه منجم، فقال له: يا أمير المؤمنين، لا تسر في هذه الساعة وسر على ثلاث ساعات مضين من النهار، فإنك إن سرت في هذه الساعة أصابك وأصاب أصحابك أذى وضر شديد، وإن سرت في الساعة التي أمرتك بها ظهرت وظفرت وأصبت ما طلبت([18]).
وكذا ما كان من قصة قيس بن سعد وتلفيق معاوية كتاباً ونسبته إليه، فقرأه على أهل الشام، فشاع في الشام كلها أن قيساً صالح معاوية وأتت عيون علي رضي الله عنه إليه بذلك، فأعظمه وأكبره وتعجب له ودعا ابنيه حسناً وحسيناً وابنه محمداً وعبدالله بن جعفر، فأعلمهم بذلك، وقال: ما رأيكم؟ فقال عبدالله بن جعفر: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، اعزل قيساً من مصر، قال علي: والله إني غير مصدق بهذا على قيس، فقال عبدالله: اعزله يا أمير المؤمنين؛ فإن كان حقاً ما قد قيل لا يعتزلك إن عزلته([19]).
وكذا اختلاف أصحابه عليه بعد رفع المصاحف في صفين، فمن قائل بالقتال، ومن قائل بالمحاكمة إلى الكتاب، حتى قال رضي الله عنه: إنها كلمة حق يراد بها باطل، إنهم ما رفعوها وإنهم يعرفونها ولا يعملون بها ولكن الخديعة والوهن والمكيدة، أعيروني سواعدكم وجماجمكم ساعة واحدة، فقد بلغ الحق مقطعه ولم يبق إلا أن يقطع دابر الظالمين، فجاءه من أصحابه زهاء عشرين ألفاً مقنعين في الحديد شاكي السلاح، سيوفهم على عواتقهم، وقد اسودت جباههم من السجود، يتقدمهم مسعر بن فدكي وزيد بن حصين، وعصابة من القراء الذين صاروا خوارج من بعد، فنادوه باسمه لا بإمرة المؤمنين، قالوا: يا علي، أجب القوم إلى كتاب الله إذا دعيت إليه وإلا قتلناك كما قتلنا ابن عفان، فوالله لنفعلنها إن لم تجب، فحاول إقناعهم فأبوا، وقالوا: فابعث إلى الأشتر ليأتيك([20]).
وكان رضي الله عنه يقول في ذلك:
فمالت إلى المصاحف قلوب من بقي من أصحابي، فظنوا أن ابن آكلة الأكباد له الوفاء بما دعا إليه، وأصغوا إلى دعوته وأقبلوا بأجمعهم في إجابته، فأعلمتهم أن ذلك منه مكر ومن ابن العاص معه، وأنهما إلى النكث أقرب منهما إلى الوفاء، فلم يقبلوا ولم يطيعوا أمري وأبو إلا إجابته، كرهت أم هويت، شئت أم أبيت، حتى أخذ بعضهم يقول: إن لم يفعل فألحقوه بابن عفان أو ادفعوه إلى ابن هند برمته([21]).
حتى مالك بن الأشتر وهو من أعاظم أصحابه والذي سألوه أن يبعث إليه ليأتيه، لم يكن يختلف عنهم في عدم القول بعصمة علي رضي الله عنه، أو أنه لا يفتقر إلى آرائهم؛ بل كان يرى جواز مخالفته شأنه في ذلك شأن سائر الناس.
وإليك بعضاً مما يدل على ذلك:
ففي قصة التحكيم بين الأمير ومعاوية واضطراره إلى اختيار أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال رضي الله عنه: والله ما كان عندي بمؤتمن ولا ناصح، ولقد أردت عزله فأتاني الأشتر فسألني أن أقره على كره مني([22]).
ولما أراد أن يبعث جريراً إلى معاوية، قال له الأشتر: لا تبعثه ودعه ولا تصدقه، فوالله إني لأظن هواه هواهم ونيته نيتهم، ولما رجع من عند معاوية كثر قول الناس في التهمة له، واجتمع جرير والأشتر عند علي، فقال الأشتر: أما والله يا أمير المؤمنين لو كنت أرسلتني إلى معاوية لكنت خيراً لك من هذا الذي أرخى من خناقه وأقام عنده حتى لم يدع باباً يرجو روحه إلا فتحه أو يخاف غمه إلا سده، وقال: أليس نهيتك يا أمير المؤمنين أن تبعث جريراً، وأخبرتك بعداوته وغشه، فخرج علي رضي الله عنه إلى دار جرير فشعث منها وحرق مجلسه، وخرج أبو زرعة بن جرير، وقال: أصلحك الله، إن فيها أيضاً لغير جرير... الروايات([23]).
♦وفي موقف آخر كلمه الأشتر بكلام يحضه على أهل الوقوف، فكره ذلك علي رضي الله عنه حتى شكاه، فما زال به حتى قال له: يا مالك دعني، فقال الأشتر: دعني يا أمير المؤمنين أوقع بهؤلاء الذين يتخلفون عنك، فقال له علي: كف عني، فانصرف الأشتر وهو مغضب([24]).
وغضب عليه أيضاً لما ولى بني العباس على الحجاز واليمن والعراق، فقال له الأشتر: فلماذا قتلنا الشيخ بالأمس؟ أي: عثمان رضي الله عنه، ولما بلغ علياً رضي الله عنه مقولته أحضره ولاطفه واعتذر إليه([25]).
والروايات في خلاف الأشتر مع علي رضي الله عنه واعتراضه عليه وفرض آرائه عليه كثيرة، حتى قال أصحابه رضي الله عنهم له: هل نحن إلا في حكم الأشتر([26]).
ولا ينتهي خلاف أصحابه، ففي التحكيم أصروا على أبي موسى الأشعري رضي الله عنه رغم كراهته لذلك، حتى قال: فأجبتكم كارهاً، ولو وجدت في ذلك الوقت أعواناً غيركم لما أجبتكم([27]).
وحتى قال رضي الله عنه: إن عامة من معي يعصيني([28]).
إلى أن أقر بأنه رضي الله عنه قد فقد السيطرة عليهم، فنراه يقول: أيها الناس: إنه لم يزل أمري معكم على ما أحب حتى نهكتكم الحرب، وقد والله أخَذَت منكم وترَكت، وهي لعدوكم أنهك، ولقد كنت أمس أميراً فأصبحت اليوم مأموراً، وكنت أمس ناهياً فأصبحت اليوم منهياً([29]).
فهل ترى من كل هذا مكاناً للعصمة التي يدعيها القوم له رضي الله عنه؟
فإن أبى القوم إلا غياب ذلك عن الأصحاب، فهاكها من أهله بل ومن أصحاب الكساء رضي الله عنهم، فها هو ابنه الحسن رضي الله عنه لما كان ما كان من أمر خروج طلحة والزبير وعائشة رضي الله عنهم بكى بين يدي أبيه، وقال: يا أمير المؤمنين، إني لا أستطيع أن أكلمك وبكى، فقال له أبوه: لا تبك يا بني، وتكلم ولا تحن حنين الجارية، فقال: يا أمير المؤمنين، إن القوم حصروا عثمان يطلبونه بما يطلبونه إما ظالمين أو مظلومين، فسألتك أن تعتزل الناس وتلحق بمكة، ثم خالفك طلحة والزبير، فسألتك أن لا تتبعهما وتدعهما، وأنا اليوم أسألك أن لا تقدم العراق وأذكرك بالله أن تقتل بمضيعة، فقال أمير المؤمنين: أما قولك: إن عثمان حصر، فما ذاك وما علي منه، وقد كنت بمعزل عن حصره، وأما قولك: ائت مكة، فوالله ما كنت لأكون الرجل الذي يستحل به مكة، وأما قولك: اعتزل العراق ودع طلحة والزبير، فوالله ما كنت لأكون كالضبع تنتظر حتى يدخل عليها طالبها فيضع الحبل في رجلها حتى يقطع عرقوبها ثم يخرجها فيمزقها إرباً إرباً([30]).
وفي أحد مواقف صفين رأى الحسن من أبيه رضي الله عنهما تهوراً، فقال له: ما ضرك لو سعيت حتى تنتهي إلى أصحابك، فقال: يا بني، إن لأبيك يوماً لن يعدوه([31]).
فانظر مَن تُصوّب ومن تُخطّىء منهما، وبأيهما أخذت يتحقق المقصود.
وهذا عبدالله بن جعفر ذو الجناحين رضي الله عنه، لما بلغ الأمير رضي الله عنه مقتل محمد بن أبي بكر، جزع عليه جزعاً شديداً وقال: ما أخلق مصر أن يذهب آخر الدهر، فلوددت أني وجدت رجلاً يصلح لها فوجهته إليها، فقال -أي: عبدالله بن جعفر- تجد، فقال: من؟ فقال: الأشتر، قال: ادعه لي([32]).
فكيف غاب عنه رجل كالأشتر وهو من هو كما مرَّ بك؟
وكان من أهل البيت رضي الله عنهم من يستحل خيانته، ففي كتاب له رضي الله عنه إلى عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: أما بعد، فإني كنت أشركتك في أمانتي وجعلتك شعاري وبطانتي، ولم يكن في أهلي رجل أوثق منك في نفسي لمواساتي ومؤازرتي وأداء الأمانة إلي، فلما رأيت الزمان على ابن عمك قد كلب، والعدو قد حرب، وأمانة الناس قد خزيت، وهذه الأمة قد فتكت وشغرت، قلبت لابن عمك ظهر المجن، ففارقته مع المفارقين، وخذلته مع الخاذلين، وخنته مع الخائنين، فلا ابن عمك آسيت، ولا الأمانة أديت، وكأنك لم تكن الله تريد بجهادك، وكأنك لم تكن على بينة من ربك، وكأنك إنما كنت تكيد هذه الأمة عن دنياهم وتنوي غرتهم عن فيئهم، فلما أمكنتك الشدة في خيانة الأمة أسرعت الكرة، وعاجلت الوثبة، فاختطفت ما قدرت عليه من أموالهم المصونة لأراملهم وأيتامهم اختطاف الذئب الأزل دامية المعزى الكسيرة، فحملته إلى الحجاز رحيب الصدر بحمله غير متأثم من أخذه، كأنك لا أباً لغيرك حدرت على أهلك تراثك من أبيك وأمك، فسبحان الله! أما تؤمن بالمعاد؟ أو ما تخاف من نقاش الحساب؟
أيها المعدود كان عندنا من ذوي الألباب، كيف تسيغ شراباً وطعاماً وأنت تعلم أنك تأكل حراماً وتشرب حراماً وتبتاع الإماء وتنكح النساء من مال اليتامى والمساكين والمؤمنين والمجاهدين الذين أفاء الله عليهم هذه الأموال وأحرز بهم هذه البلاد؟ فاتق الله، واردد إلى هؤلاء القوم أموالهم، فإنك إن لم تفعل ثم أمكنني الله منك لأعذرن إلى الله فيك، ولأضربنك بسيفي الذي ما ضربت به أحداً إلا دخل النار، والله لو أن الحسن والحسين فعلا مثل فعلك الذي فعلت ما كانت لهما عندي هوادة ولا ظفراً مني بإرادة حتى آخذ الحق منهما، وأزيح الباطل عن مظلمتهما([33]).
فماذا كان جواب ابن عباس رضي الله عنهما على كتاب علي رضي الله عنه؟
هل رأى ابن عباس رضي الله عنهما عصمة ابن عمه رضي الله عنه وهو يقول له ما مرَّ بك ليثوب إلى رشده ويستغفر ربه، أم إنه لم يجد في كلامه سوى مجتهد مخطئ لا عصمة لقولـه ولا رداء لفه حوله النبي صلى الله عليه وسلم، فأذهب عنه الرجس فلا ينطق إلا حقاً كما يزعمون؟
انظر ما كان من رده على علي رضي الله عنهما جميعاً:
أما بعد: فقد أتاني كتابك تعظم عليَّ ما أصبت من بيت مال البصرة، ولعمري إن حقي في بيت المال لأكثر مما أخذت والسلام([34]).
فكتب إليه علي رضي الله عنه: أما بعد:
فإن من العجب أن تزين لك نفسك أن لك في بيت مال المسلمين من الحق أكثر مما لرجل من المسلمين، فقد أفلحت إن كان تمنيك الباطل وادعاؤك ما لا يكون ينجيك من المأثم ويحل لك المحرم إنك لأنت المهتدي السعيد إذاً، وقد بلغني أنك اتخذت مكة وطناً، وضربت بها عطناً، تشتري بها مولدات مكة والمدينة والطائف تختارهن على عينك وتعطي فيهن مال غيرك، فارجع هداك الله إلى رشدك، وتب إلى الله ربك، وأخرج إلى المسلمين من أموالهم فعما قليل تفارق من ألفت، وتترك ما جمعت، وتغيب في صدع الأرض غير موسد ولا ممهد، قد فارقت الأحباب، وسكنت التراب، وواجهت الحساب، غنياً عما خلفت، فقيراً إلى ما قدمت والسلام([35]).
فرد عليه ابن عباس رضي الله عنهما: أما بعد: فإنك قد أكثرت عليَّ، ووالله لأن ألقى الله قد احتويت على كنوز الأرض كلها من ذهبها وعقيانها ولجينها أحب إلي من أن ألقاه بدم امرئ مسلم والسلام([36]).
فها أنت ترى أن ابن عمه رضي الله عنه لا يرى فيه ما يراه القوم له، وأهل مكة أدرى بشعابها.
إذاً: ليس من العجيب أن يأمر معاوية علياً رضي الله عنه بالتقوى فيرد عليه: فأما أمرك لي بالتقوى فأرجو أن أكون من أهلها، وأستعيذ بالله من أن أكون من الذين إذا أمروا بها أخذتهم العزة بالإثم([37]).
وكذا فعل مع الخوارج لما أمروه أن يستغفر الله ويتوب إليه بعد التحكيم، فقال: أنا أستغفر الله من كل ذنب([38]).
([1]) البحار: (40/199)(100/449).
([2]) أمالي الصدوق: (48)، البحار: (41/11، 12)، المناقب: (2/124).
([3]) البحار: (41/138)(71/191).
([4]) عيون الأخبار: (163)، أمالي الصدوق: (86)، كتاب سليم بن قيس: (72)، البحار: (28/55، 66، 75)(38/103)(39/55)(42/190)(96/358)، تفسير العسكري: (408)، إثبات الهداة: (1/264، 285)، كشف الغمة: (1/96)، الطرائف: (129).
([5]) البحار: (38/141).
([6]) اليقين: (18)، البحار: (22/332)(40/12).
([7]) أمالي الصدوق: (153، 313)، أمالي المفيد: (95)، كشف الغمة: (1/92)، بشارة المصطفى: (182)، البحار: (27/74،221)(38/108، 109)(39/257،265،274، 276، 284)(81/40)، أمالي الطوسي: (438).
([8]) البحار: (8/25).
([9]) روضة الكافي: (293)، البحار: (27/253)(41/154)(77/361).
([10]) أمالي الطوسي: (518، 565)، البرهان: (3/315)، البحار: (32/263).
([11]) رجال الكشي: (85)، البحار: (33/315).
([12]) أمالي الطوسي: (190)، البحار: (32/541)(33/316).
([13]) البحار: (32/22، 30)، أمالي الطوسي: (735).
([14]) البحار: (397).
([15]) البحار: (32/556).
([16]) البحار: (33/35).
([17]) البحار: (33/74).
([18]) البحار: (33/346)(58/224، 264).
([19]) البحار: (33/538)، الغارات: (205).
([20]) البحار: (32/312، 530)(33/534).
([21]) البحار: (33/319)(38/181)، الخصال: (380).
([22]) البحار: (32/86، 101)، أمالي الطوسي: (68).
([23]) البحار: (32/367، 381).
([24]) أمالي الطوسي: (726)، البحار: (32/71).
([25]) البحار: (42/176).
([26]) البحار: (32/539)(33/313)، المناقب: (2/364).
([27]) المناقب: (2/375)، البحار: (33/395).
([28]) البحار: (32/503).
([29]) نهج البلاغة، من كلام له رضي الله عنه لما اضطرب عليه أصحابه في أمر الحكومة، البحار: (33/306) (100/41).
([30]) أمالي الطوسي: (51)، البحار: (32/103)، وانظر أيضاً: نهج البلاغة: من كلام له لما أشير عليه بأن لا يتبع طلحة والزبير ولا يرصد لهما القتال، البحار: (32/135).
([31]) كشف الغمة: (2/248)، البحار: (32/599).
([32]) الاختصاص: (79)، البحار: (33/589).
([33]) نهج البلاغة: (499)، البحار: (33/499)(42/153، 181)، معرفة أخبار الرجال: (40).
([34]) البحار: (33/501)(42/154، 184)، معرفة أخبار الرجال: (41).
([35]) البحار: (33/501)(42/154، 184)، معرفة أخبار الرجال: (41).
([36]) البحار: (33/502)(42/185)، معرفة أخبار الرجال: (42).
([37]) البحار: (33/81).
([38]) البحار: (33/353).