من أشهر ما استدل به الشيعة على أفضلية علي رضي الله عنه على سائر الصحابة، حديث الطائر الذي روي بطرق متعددة عند الفريقين، ومفاده أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الله أن يأتيه بأحب خلقه إليه ليأكل معه من الطير، فكان الداخل علياً. غير أن هذا الحديث، بعد دراسة أسانيده، يظهر أنه لم يصح بشيء معتبر، بل أكثر طرقه واهية أو فيها مجاهيل ومتروكون، واضطربت متونه اضطراباً بيناً: فتارة الداخل علي، وتارة عائشة، وتارة أبو رافع، وتارة غيرهم. وتارة يُذكر أن الذي أهدى الطائر جبريل، وتارة امرأة من الأنصار، كما اختلفت ألفاظ الدعاء وعدد الطير. ثم إن الاستدلال به على الإمامة ساقط، إذ لا يلزم أن يكون أحب الخلق إلى الله صاحب الرئاسة العامة، فضلاً عن أن الحديث نفسه يناقض دعوى القوم بأن النبي كان يعلم مكانة علي مسبقاً. كما أن روايات الشيعة أنفسهم تنقل أن أحب الناس إلى رسول الله في مواضع أخرى كانوا فاطمة أو الحسن أو الحسين أو جعفراً أو غيرهم. وهكذا يتبين أن حديث الطائر لا يثبت سنداً ولا متناً، ولا يصلح دليلاً على الإمامة أو الأفضلية المطلقة.
الاستدلال بخبر الطائر وذكر الروايات والرد عليها:
أما الاستدلال بخبر الطائر، وأن علياً رضي الله عنه أحب الخلق إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأن من كان أفضل من جميع الصحابة رضوان الله عليهم لا يجوز تقدم غيره عليه، فقبل الكلام فيه نورد طرقه، ونتكلم في أسانيده، ثم ننظر في متونه:
الرواية الأولى:
الطوسي، أبوعمرو، عن ابن عقدة، عن محمد بن أحمد بن الحسن، عن يوسف بن عدي، عن حماد بن المختار، عن عبد الملك بن عمير، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم طائر فوضع بين يديه، فقال: اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي، فجاء علي فدق الباب، فقلت: من ذا؟ فقال: أنا علي، فقلت: إن النبي على حاجة، حتى فعل ذلك ثلاثاً، فجاء الرابعة فضرب الباب برجله فدخل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما حبسك؟ قال: قد جئت ثلاث مرات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ماحملك على ذلك؟ قال: قلت: كنت أحب أن يكون رجلاً من قومي([1]).
أقول: أبوعمرو، هو عبد الواحد بن محمد بن عبدالله بن محمد بن خشام، وهو من مشايخ الطوسي من العامة عند من ذكره من القوم، ولم نقف على من ذكر حاله، وابن عقدة مرت ترجمته، ومحمد بن أحمد بن الحسن مجهول[2]،أما المختار فلم أجد له ترجمة.
الرواية الثانية:
محمد بن علي بن عبد الصمد، عن أبيه، عن جده، عن محمد بن القاسم الفارسي، عن عبدالله بن أبي حامد، عن محمد بن إبراهيم بن أحمد، عن أحمد بن مدرك، عن إبراهيم بن سعد، عن حسين بن محمد، عن سليمان بن قرط، عن محمد بن شعيب، عن داود بن علي بن عبدالله بن عباس، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بطير، فقال: اللهم ائتني بأحب خلقك إليك، فجاء علي، فقال: اللهم وال من والاه وعاد من عاداه([3]).
أقول: سند هذه الرواية ظلمات بعضها فوق بعض، فبين مجهول كابن سعد، وابن شعيب، وداود، وأبيه، وغير مترجم له كالفارسي، ومحمد بن أحمد، وابن مدرك، وابن قرط.
الرواية الثالثة:
الطوسي، أخبرنا جماعة، عن أبي المفضل، قال: حدثنا محمد بن عبدالله بن مورويه الجندى سابوري من أصل كتابه، قال: حدثنا علي بن منصور الترجماني، قال: أخبرنا الحسن بن عنبثة النهشلي، قال: حدثنا شريك بن عبدالله النخعي القاضي، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون الأودي... فذكر حديثاً طويلاً فيه قصة الطير([4]).
أقول: أبوالمفضل ضعيف كما مر بك، وبقية السند بين مجاهيل كابن ميمون، ومن ليست له ترجمة كابن مورويه والترجماني والنهشلي، وقد تكلمنا في شريك وأبي اسحاق.
الرواية الرابعة:
الصدوق، حدثنا أبي، عن علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن أبي هدبة، عن أنس رضي الله عنه... فذكر القصة([5]).
أقول: قد تكلمنا فيما مضى عن بعض رجال السند، وحسب السند هذا أن فيه إبراهيم بن هدبة، فقد ضعفه وتركه كل من ترجم له.
الرواية الخامسة:
الطوسي، أخبرنا أحمد بن محمد بن الصلت، قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن سعيد إجازة، قال: حدثنا علي بن محمد بن حبيبة الكندي، قال: حدثنا حسن بن حسين، قال: حدثنا أبوغيلان سعد بن طالب الشيباني، عن إسحاق، عن أبي الطفيل، قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في حديث طويل: أنشدكم بالله هل فيكم أحد أُتيَ النبي صلى الله عليه وسلم بطير، فقال: اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر، فدخلت عليه([6])؟
أقول: مضى الكلام في البعض، والشيباني مجهول الحال([7])، والكندي وحسن بن حسين لم أجد لهم تراجم.
الرواية السادسة: الطوسي:
أخبرنا جماعة، عن أبي المفضل، قال: حدثنا الحسن بن علي بن زكريا العاصمي، قال: حدثنا أحمد بن عبيدالله العدلي، قال: حدثنا الربيع بن يسار، قال: حدثنا الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، يرفعه إلى أبي ذر، أن علياً رضي الله عنه قال: فذكر الرواية([8]).
أقول: مر السند بتمامه، وكذا الكلام فيه عند حديثنا عن روايات التصدق بالخاتم في الرواية الثامنة عشرة.
الرواية السابعة: الصدوق:
حدثنا أحمد بن الحسن القطان، قال: حدثنا أحمد بن يحيى بن زكريا أبو العباس القطان، قال: حدثنا محمد بن إسماعيل البرمكي، قال: حدثنا عبدالله بن داهر، قال: حدثنا أبي، عن محمد بن سنان، عن المفضل، عن عمر، عن أبي عبدالله، في رواية طويلة ذكر فيها حديث الطير([9]).
من مقالات السقيفة: |
معنى الركوع في القرآن بين الخضوع والعبادة الامامة والائمة والعصمة والمهدي |
أقول: مر الكلام في أكثر رجال السند، وابن داهر ضعيف([10])، ولم أجد ترجمة لأبيه.
الرواية الأخيرة: الكراجكي:
عن علي بن الحسن بن مندة، عن الحسن بن يعقوب البزاز، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، قال:...فذكر حديثاً طويلاً فيه قصة الطير([11]).
أقول: ابن مندة لم يصرح بوثاقته أحد([12])، والبزاز لم أجد له ترجمة، ومر الكلام في الباقي.
هذه الروايات -جل ما وقفت عليه من خبر الطير- بأسانيدها من طرق الإمامية، وغيرها إما منقولة من طرق أهل السنة، وقد بينا القول فيها في مقدمة الباب، وإما إرسالها إرسال المسلمات دون سند، وحسبها هذا في فساد حجيتها فيما نحن فيه.
فإذا عرفت بأنه لم يصح شيء من طرق الرواية عند الفريقين، يكون الكلام في المتن.
الكلام في متن حديث الطائر:
أول ذلك الاضطراب غير الخافي في مجموع الروايات، سواء المسندة منها أو غير المسندة، منها مثلاً:
أن الطارق في بعض الروايات كان علياً كما مر بك.
وفي أخرى: عائشة([13]).
وأخرى: أبا رافع([14]).
ومن ذلك: اختلاف دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم، بين قولـه: اللهم يسر لي عبداً يحبك ويحبني([15])، وبين قولـه: اللهم ائتني بأحب خلقك إليك، وفي لفظ: إليك وإلي، كما في معظم الروايات، وبين قولـه: ليت أمير المؤمنين وسيد المسلمين وإمام المتقين عندي يأكل معي([16])، وغيرها.
ومن ذلك: من الذي أهدى إليه الطائر؟ فمن لفظ مطلق دون تحديد، ومن كونه جبرئيل عليه السلام ([17])، ومن كونها امرأة من الأنصار([18]).
ومن ذلك: عدد الطير، من واحد كما في أكثر الروايات، وطيرين كما في البعض الآخر([19]).
وغيرها من اضطراب الروايات.
وقد رُد على هذا الاستدلال من وجوه:
أولاً: أن أكل الطير ليس فيه أمر عظيم يناسب أن يجيء أحب الخلق إلى الله ليأكل منه، فإن إطعام الطعام مشروع للبر والفاجر، وليس في ذلك زيادة وقربة عند الله لهذا الآكل ولا معونة على مصلحة دين ولا دنيا، فأي أمر عظيم هنا يناسب جعل أحب الخلق إلى الله يفعله.
ثانياً: أن هذا الحديث يناقض مذهب القوم، فإنهم يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم أن علياً أحب الخلق إلى الله، وأنه جعله خليفة من بعده، وهذا الحديث يدل على أنه ما كان يعرف أحب الخلق إلى الله.
ثالثاً: أنه لا يلزم أن يكون أحب الخلق إلى الله صاحب الرئاسة العامة، فكأين من أولياء وأنبياء كانوا أحب الخلق إلى الله في زمانهم ولم يكونوا ذوي رياسة عامة، كزكريا ويحيى وشمويل الذي كان طالوت في زمنه صاحب رياسة عامة بنص إلهي.
رابعاً: أن يقال: إما أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرف أن علياً أحب الخلق إلى الله أو لا يعرف، فإن كان يعرف ذلك فيمكنه أن يرسل في طلبه كما كان يطلب الواحد من الصحابة، أو يقول: اللهم ائتني بعلي فإنه أحب الخلق إليك، فأي حاجة إلى الدعاء والإبهام في ذلك؟ ولو سمى علياً رضي الله عنه لاستراح أنس رضي الله عنه من الرجاء الباطل، ولم يغلق الباب في وجه علي، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يعرف ذلك بطل ما يدعونه من كونه يعرف ذلك.
ثم إن في لفظة: (أحب الخلق إليك وإلي) إشكال، فكيف لا يعرف أحب الخلق إليه.
أقول: والغريب أن في روايات القوم ما يفيد عدم معرفة الصحابة، وكذا أهل البيت رضي الله عنهم مَن أحب الناس إليه صلى الله عليه وسلم حتى لحظة وفاته.
فمن تلك الروايات:
أ- عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرض موته: ادعوا لي حبيبي، فجعل يدعى له رجل بعد رجل، فيعرض عنه، فقيل لفاطمة: امضي إلى علي فما نرى رسول الله يريد غير علي، فبعثت فاطمة إلى علي([20]).
وروايات قولـه صلى الله عليه وسلم في مرض موته: ادعوا لي خليلي أو حبيبي، وجهل الناس به أو دعوةِ غيرِ علي رضي الله عنه -كما يزعم القوم- كثيرة([21]).
ب- ومن روايات عدم علمه رضي الله عنه عند القوم، أنه قال: يا رسول الله، أينا أحب إليك أنا أم فاطمة؟ قال: فاطمة أحب إلي منك([22]).
ج- وقال رضي الله عنه: كانت فاطمة من أحب أهله إليه([23]).
د- ورووا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: اللهم هذه ابنتي وأحب الخلق إلي([24]).
هـ- وعن أسامة رضي الله عنه، أن علياً والعباس رضي الله عنهما سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، أي أهلك أحب إليك؟ قال: فاطمة([25]).
و- واجتمع علي يوماً وجعفر وزيد بن حارثة رضي الله عنهم، فجعل كل واحد منهم يقول: أنا أحبكم إلى رسول الله، فانطلقوا إلى رسول الله، فقالوا: يا رسول الله، جئنا نسألك: من أحب الناس إليك؟ قال: فاطمة.. الحديث([26]).
ولا شك أن جعفراً -مثلاً- ما جعل نفسه إزاء الأمير رضي الله عنه لو علم بقصة الطير، حتى وإن علم، فكيف يصنع بقول الرسول صلى الله عليه وسلم له: يا جعفر، أشبهت خلقي وخلقي([27])؟
ز- وقال: خلق الناس شتى، وخلقت أنا وجعفر من شجرة واحدة، أو قال: من طينة واحدة([28]).
ح- وقال له لما قدم من الحبشة يوم فتح خيبر: أيها الناس: ما أدري بأيهما أنا أُسَرّ، أبافتتاحي خيبر أم بقدوم ابن عمي جعفر، وبكى فرحاً برؤيته([29]).
فنراه هنا جعل فتح خيبر وهو ما هو بإزاء مقدم جعفر رضي الله عنه.
ط- ويبدو أن أهل السماء أيضاً لم يعرفوا ذلك، فعن رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما يروي القوم- قال: من أحب أن ينظر إلى أحب أهل الأرض إلى أهل السماء فلينظر إلى الحسين([30]).
ولا أقل من كون معظم هذه الروايات في المدينة وبعد روايات الطير لمن تدبر وإن كان الأمران سيان، وقد رأيتَ أن هذه المحبة لم تخلص له.
([1]) أمالي الطوسي: (259)، المناقب: (1/435)، البحار: (38/350، 352) (43/38).
([2]) معجم الخوئي: (14/324).
([3]) بشارة المصطفى: (202)، البحار: (38/355).
([4]) أمالي الطوسي: (568)، البرهان: (3/315).
([5]) أمالي الصدوق: (521)، البحار: (38/353)، إثبات الهداة: (2/70).
([6]) أمالي الطوسي: (342).
([7]) معجم الخوئي: (8/67).
([8]) أمالي الطوسي: (557).
([9]) علل الشرايع: (161)، مختصر البصائر: (216)، المحتضر: (69)، البحار: (39/194)، البرهان: (4/224)، تأويل الآيات: (2/790).
([10]) معجم الخوئي: (10/183)، النجاشي: (2/33).
([11]) البحار: (60/300).
([12]) معجم الخوئي: (11/367).
([13]) الاحتجاج: (197)، البحار: (32/277) (38/348).
([14]) اليقين: (13)، بشارة المصطفى: (203)، البحار: (38/351).
([15]) الاحتجاج: (104)، البحار: (38/349).
([16]) اليقين: (13)، بشارة المصطفى: (203)، البحار: (38/351).
([17]) الاحتجاج: (104)، البحار: (38/348).
([18]) الطرائف: (18)، البحار: (38/355).
([19]) الطرائف: (18)، البحار: (38/355).
([20]) أمالي الصدوق: (379)، الطرائف: (38)، البحار: (22/510) (38/308، 312).
([21]) انظرأيضاً: الخصال: (2/173، 186)، البصائر: (88، 90، 91)، الاختصاص: (285)، البحار: (22/461، 462، 463، 464، 473) (38/308، 312) (40/215)، إثبات الوصية: (18)، إعلام الورى: (142)، المناقب: (1/236).
([22]) كشف الغمة: (2/90)، البحار: (36/72) (43/38)، إعلام الورى: (156).
([23]) البحار: (43/82).
([24]) البحار: (43/96).
([25]) البحار: (43/68).
([26]) البحار: (38/307) (43/68).
([27]) البحار: (20/372) (21/64) (38/307، 328) (41/151).
([28]) البحار: (21/64).
([29]) عيون الأخبار: (1/231)، التهذيب: (1/175)، الخصال: (2/82)، إعلام الورى: (63)، نوادر الراوندي:(33)، البحار:(21/7،23، 24، 25، 63) (22/276) (38/294) (39/207) (76/282) (91/206، 211)، بشارة المصطفى: (177).
([30]) البحار: (43/297).