انتشرت في الجاهلية أخبار الكهان والعرافين، وزعموا علم الغيب وإدراك ما وراء ستره، فجاء الإسلام ليكشف حقيقتهم، ويبين أنهم يخلطون الحق بالباطل، وأن ما يصيبونه أحيانًا ليس من عند أنفسهم وإنما مما يتلقونه من الجن أو بالتخمين والحدس أو العادة والتجربة. وهذا المقال يعرض مصادر الكاهن التي يعتمد عليها، مع بيان موقف الشرع منها.
فالكهان لا يملكون علم الغيب، وإنما تأتيهم أخبارهم من طرق متعددة: منها ما يتلقونه من الجن استراقًا للسمع، ومنها ما يوحي به الجن إلى أوليائهم من أمور غائبة عن عامة الناس، ومنها ما يعتمد على الظن والحدس، أو على التجربة والعادة، أو على معرفة الشيطان بما يوسوس به في صدور الناس. كما يوضح المقال أن إصابة الكاهن أحيانًا للخبر لا تخرجه عن كونه كاذبًا، إذ يخلط الحق بأضعافه من الكذب، ولذلك جاء الشرع بتحريم تصديقهم واتباعهم.
مقالات السقيفة ذات الصلة:
هل ورّث النبي ﷺ علم الغيب للأئمة فقط؟
مَا هو الوَحْيُ وَمَا هو الإِلْهَامِ؟
تعريف الوحي لغة وشرعًا وأنواعه
فمِنْ أَيْنَ يَأْتِي الكَاهِنُ بِأَخْبَارِهِ؟
الجَوَابُ: يِأْتِي مِنْ عِدَّةِ أَشْكَالٍ؛ هِيَ:
1) مَا يَتَلَقَّونَهُ مِنَ الجِنِّ: فَإِنَّ الجِنَّ كَانُوا يَصْعَدُوْنَ إِلَى جِهَةِ السَّمَاءِ؛ فَيَرْكَبُ بَعْضُهُم بَعْضًا إِلَى أَنْ يَدْنُوَ الأَعْلَى بِحَيْثُ يَسْمَعُ الكَلَامَ فَيُلْقِيْهِ إِلَى الَّذِيْ يَلِيْهِ، إِلَى أَنْ يَتَلَقَّاهُ مَنْ يُلْقِيْهِ فِي أُذُنِ الكَاهِنِ فَيَزِيْدَ فِيْهِ.
(وَفِي البُخَارِيِّ (6213)، وَمُسْلِمٍ (2228)
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا (سَأَلَ أُنَاسٌ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الكُهَّانِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَيْسُوا بِشَيْءٍ). قَالُوا يَا رَسُوْلَ اللهِ: فَإِنَّهُمْ يُحَدِّثُوْنَ أَحْيَانًا بِالشَّيْءِ يَكُوْنُ حَقًّا! فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (تِلْكَ الكَلِمَةُ مِنَ الحَقِّ يَخْطَفُهَا الجِنِّيُّ فَيَقُرُّهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ قَرَّ الدَّجَاجَةِ فَيَخْلِطُوْنَ فِيْهَا أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ كَذْبَةٍ)). وَفِي لَفْظٍ (فَيُقَرْقِرُهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ كَقَرْقَرَةِ الدَّجَاجَةِ).
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حجرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (219/ 10).
قَوْلُهُ لَهُم (لَيْسُوا بِشَيْءٍ): أَيْ: لَيْسَ قَوْلُهُم بِشَيْءٍ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، (ثُمَّ نَقَلَ عَنِ الخَطَّابِيِّ رَحِمَهُ اللهُ): (أَنَّ إِصَابَةَ الكَاهِنِ أَحْيَانًا إِنَّمَا هِيَ لِأَنَّ الجِنِّيَّ يُلْقِي إِلَيْهِ الكَلِمَةَ الَّتِيْ يَسْمَعُهَا - اسْتِرَاقًا مِنَ المَلَائِكَةِ - فَيَزِيْدُ عَلَيْهَا أَكَاذِيْبَ يَقِيْسُهَا عَلَى مَا سَمِعَ، فَرُبَّمَا أَصَابَ نَادِرًا؛ وَخَطَؤُهُ الغَالِبُ)
2) مَا يُخْبِرُ الجِنِّيُّ بِهِ مَنْ يُوَالِيْهِ بِمَا غَابَ عَنْ غَيْرِهِ - مِمَّا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الإِنْسَانُ غَالِبًا، أَوْ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ مَنْ قَرُبَ مِنْهُ لَا مَنْ بَعُدَ -.
3) مَا يَسْتَنِدُ إِلَى ظَنٍّ وَتَخْمِيْنٍ وَحَدْسٍ، وَهَذَا قَدْ يَجْعَلُ اللهُ فِيْهِ لِبَعْضِ النَّاسِ قُوَّةً؛ مَعَ كَثْرَةِ الكَذِبِ فِيْهِ.
4) مَا يَسْتَنِدُ إِلَى التَّجْرُبَةِ وَالعَادَةِ، فَيَسْتَدِلُ عَلَى الحَادِثِ بِمَا وَقَعَ قَبْلَ ذَلِكَ.
5) مَا يَعْرِفُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ هَوَاجِسِ الإِنْسَانِ الَّتِيْ يُوَسْوِسُهَا لِابْنِ آدَمَ؛ فيُخْبِرُ بِهَا وَلِيَّهُ.
(انْظُرْ كِتَابَ (فَتْحُ البَارِي) (217/ 10)، وَكِتَابَ (إِعَانَةُ المُسْتَفِيْدِ) (513/ 1)