يُعَدّ موضوع الخمس من أبرز القضايا الخلافية داخل الفكر الشيعي، وقد شهد تطورًا ملحوظًا في تبريراته الفقهية مع مرور الزمن. فبينما لم يعرف المتقدمون فكرة إعطاء الخمس للفقيه، جاء المتأخرون بآراء متباينة لتسويغ أخذه، فتارةً يربطونه برضا الإمام الغائب، وتارةً يسلبونه حقه لغيابه ويجعلونه للفقيه القائم مقامه. ومع تضارب الأدلة وتعدد الذرائع، احتار الفقهاء في ضبط مشروعية التصرف بهذه الأموال، مما فتح بابًا واسعًا للنقد والمراجعة.

يعرض المقال الخلفية التاريخية والفقهية لمسألة أخذ الفقهاء للخمس، وكيف تباينت تبريراتهم بين القول بالنيابة عن الإمام الغائب، أو اعتباره من حق منصب الإمامة الذي ينتقل إلى الفقيه. كما يناقش المقال انتقادات بعض العلماء والمفكرين الشيعة مثل الدكتور موسى الموسوي، الذي رأى أن هذه الأموال تؤخذ بغير وجه حق، وأن إنفاقها في أوجه شرعية لا يحلل حرمة مصدرها.

مقالات السقيفة ذات الصلة:

نظرية الخُمس بين الفقيه والإمام الغائب

تطور نظرية الخمس عبر التاريخ

فتوى شيخ الحوزة السيد الخوئي في الخمس

كبار فقهاء الشيعة يُسقطون الخمس

الخمس بين الفريضة الشرعية والضريبة المالية

حيرة الفقهاء المتأخرين في الذريعة التي تبرر أخذهم الخمس:

وهكذا نصل إلى القول -متيقنين- أن نظرية إعطاء (الخمس) إلى الفقيه جاءت متأخرة ولم تكن معروفة عند المتقدمين، إلا أن بعض المتأخرين قالوا بها، وقد احتاروا في الذريعة أو المسوغ الشرعي الذي يبيح لهم ذلك. فمنهم من قال بإحراز رضا (الإمام) وذلك بصرفه في الوجوه الشرعية، أو بنية التصدق عنه، ومنهم من عكس هذا القول تماماً فسلب من (الإمام الغائب) حقه من الخمس، وجعل علة استحقاقه له القيام بواجبات (الإمامة) وبما أن الإمام غائب عن القيام بهذه الواجبات، فليس له شيء من (الخمس) وإنما الذي يستحقه القائم مقامه وهو الفقيه!

يقول الشيخ حسن الفريد (ت 1417هـ): إن مقتضى القاعدة سقوط النصف الذي هو للإمام عليه السلام إذ لاريب أنه إنما استحق ذلك بحق الرئاسة والإمامة، ولذا ينتقل هذا الحق إلى الذي يقوم بعده بالإمامة لا إلى ورثته، وإذا غاب عن الناس ولم يقم بالإمامة انتفت رئاسته خارجاً وينتفي حقه بانتفاء موضوعه.

رسالة في الخمس (ص:83)، انظر: تطور الفكر السياسي الشيعي (ص:354).

واحتاروا أيضاً في نيابة الفقيه وولايته هل هي مطلقة؟ أم إن نيابته عن (الإمام) تقتصر على القضاء والإفتاء؟ فإن كانت نيابته قاصرة فكيف يمكن حساب حصته من الخمس على قدر مساحة نيابته؟!

أما السيد محمود الهاشمي فينتقد المنهج الذي سلكه الفقهاء في مسألة الخمس ويجعل أساس أقوالهم فيه الذوق والوجدان ولذلك اختلفوا حسب اختلاف أذواقهم وسلائقهم ويصرح قائلاً: وهذا كله لا أساس له، ولا يبقي إلا على قول واحد هو قول الشيخ حسن الفريد الذي يجعل من الخمس ملكاً لمنصب الإمامة والولاية الشرعية فيكون الولي الشرعي في كل زمان هو المتولي على صرفه قانوناً وشرعاً.

كتاب الخمس (2/239)، انظر: تطور الفكر السياسي الشيعي (ص:356)

وفات السيد محمود الهاشمي أن قوله هذا كذلك لا أساس له إلا الذوق والوجدان.

شرعية الإنفاق لا تحلل حرمة المصدر (الكسب):-

ولذلك يقول الدكتور موسى الموسوي: كم أتمنى أن يترفع الفقهاء والمجتهدون عن أموال الشيعة ولا يرتضون لأنفسهم أن يكونوا عالة عليهم بذريعة ما أنزل الله بها من سلطان.

إن بعض علماء الشيعة يدافع عن أخذهم الخمس من أموال الشيعة بأنها تصرف على المدارس الدينية والحوزات العلمية والشؤون المذهبية الأخرى. ولكن المناقشة ليست في أن تلك الأموال تصرف كيف؟ ولماذا؟ بل المناقشة أصولية وواقعية ومذهبية وهي أن تلك الأموال تؤخذ زوراً وبطلاناً من الناس وحتى إذا صرفت في سبيل الله فإنها غير شرعية لا يجوز التصرف فيها.

الشيعة والتصحيح (ص:68).

وهذا الكلام أو التأصيل لا غبار عليه فإن السارق لا ينقلب ماله حلالاً وإن أنفقه في الوجوه المحللة شرعاً؛ لأن أصله حرام، وكذلك الخمس لا يصح أن نناقش شرعيته بالمقلوب، فنقول: إنه يصرف في الوجوه الشرعية المذكورة إلا بعد إثبات شرعية مصدره وحلّية أخذه من الناس من قبل الفقيه، وهما -أي: الأخذ والإنفاق- أمران مختلفان تماماً وكون أحدهما حلالاً لا يحلل الآخر ولذلك جاء في الحديث الصحيح أن صاحب المال يسأل يوم القيامة عن ماله: (من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟). فقد يكسب الإنسان ماله من وجه حلال ويصرفه في حرام، فيتحمل إثم الصرف والإنفاق، وقد يكسب ماله من حرام وينفقه على عياله أو على مسجد أو فقير، يتحمل إثم كسبه ولا أجر له في إنفاقه إلا على مذهب أحد السراق، إذ قال: إنه يستطيع أن يسرق عشرة دنانير دون أن يكسب إثماً!! قيل له: كيف؟ قال: الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها، فأنفق ديناراً واحداً على فقير فأكسب عشر حسنات أمحو بها السيئات العشر من جراء السرقة ويصفو لي تسعة دنانير حلالاً زلالاً!! وكذلك (الخمس) وأخذه من قبل الفقهاء بلا فرق.

ويقول الدكتور موسى الموسوي: لقد كان باستطاعة الفقهاء الشيعة أن يبنوا أنفسهم على الاكتفاء الذاتي، وأن يكون الفقيه معتمداً على نفسه شأنه شأن أرباب الصناعات الأخرى، كما أن باستطاعتهم الحصول على أموال لتنمية العلم والعلماء، ولكن باسم التبرعات والهبات لا باسم الواجب الشرعي وأوامر السماء.