يُعَدُّ حديث «إن أول ما خلق الله القلم» من الأحاديث التي تناولها العلماء بالبحث والتحقيق، لما يتضمنه من بيان أصل الكتابة بالقضاء والقدر، ولِما أُلحق به من زيادات غريبة وردت في بعض الروايات — منها ما هو ثابت عن النبي ﷺ، ومنها ما هو من قبيل الإسرائيليات التي رواها بعض الصحابة عن أخبار بني إسرائيل.
وفي هذا المقال نستعرض رواية الإمام الحاكم النيسابوري في المستدرك، ونبيّن حكمها الحديثي، ونوضح الفرق بين الجزء الثابت منها المرفوع إلى النبي ﷺ، والجزء الموقوف على ابن عباس رضي الله عنهما، الذي يحمل أثر الإسرائيليات.
نص الحديث كما رواه الحاكم
قال الإمام الحاكم رحمه الله: 3840 - أخبرنا أبو زكريا يحيى بن محمد العنبري، ثنا محمد بن عبد السلام، ثنا إسحاق بن إبراهيم، أنبأ جرير، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
«إن أول شيء خلقه الله القلم، فقال له: اكتب، فقال: وما أكتب؟ قال: القدر، فجرى من ذلك اليوم بما هو كائن إلى أن تقوم الساعة، قال: وكان عرشه على الماء، فارتفع بخار الماء ففتقت منه السماوات، ثم خلق النون فبسطت الأرض عليه، والأرض على ظهر النون، فاضطرب النون فمادت الأرض، فأُثبتت بالجبال، فإن الجبال لتفخر على الأرض».
ثم قال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه».
[المستدرك على الصحيحين – ج 2 ص 540]
وجاء في تلخيص الذهبي:
«على شرط البخاري ومسلم». إلا أن الذهبي لم يُسلّم بذلك كما سنوضح.
كلام العلماء في تصحيح الحديث وتضعيفه
قال الشيخ عصام الدين بن سيد بن عبد رب النبي في جامع الأحاديث القدسية: "الحديث ضعيف، ووافقه الذهبي."
ثم قال: "الحديث موقوف على ابن عباس، غير أن شطره الأول ثابت عن رسول الله ﷺ من حديث عبادة بن الصامت، ومن حديث ابن عباس مرفوعًا.
أما شطره الثاني فلم أجد أحدًا ذكره مرفوعًا، وظني أنه من الإسرائيليات التي رواها ابن عباس عن بني إسرائيل."
[جامع الأحاديث القدسية – ج 1 ص 153]
التحقيق العلمي في الرواية
الحديث ينقسم إلى شطرين:
الشطر الأول (ثابت) وهو قوله ﷺ:
«إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة».
◘ حديث صحيح، رواه الإمام أحمد (حديث عبادة بن الصامت)، وأخرجه الترمذي (2155) وقال: حديث حسن صحيح، وصححه الألباني.
الشطر الثاني (غير ثابت) وهو ما ورد فيه:
«وكان عرشه على الماء، فارتفع بخار الماء ففتقت منه السماوات، ثم خلق النون فبسطت الأرض عليه...»
◘ هذا القسم موقوف على ابن عباس، ولا يصح رفعه إلى النبي ﷺ، وقد رجّح العلماء أنه من الإسرائيليات التي نقلها ابن عباس رضي الله عنه عن كعب الأحبار أو غيره من أحبار اليهود الذين أسلموا.
وقد أشار لذلك الإمام ابن كثير في تفسير قوله تعالى: ﴿وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ﴾ [هود: 7].
حين قال: "رُويت آثار عن السلف في ذكر النون الذي عليه الأرض، وأكثرها من الإسرائيليات."
[تفسير ابن كثير – ج 4 ص 408]
الرد على من صحّحه على شرط الشيخين
إطلاق الحاكم لقولِه: «صحيح على شرط الشيخين» لا يعني أن الحديث مقبول عند أهل النقد، إذ كثير من تصحيحات الحاكم تعقبه عليها العلماء.
قال الذهبي في تعليقه على المستدرك:
"وافقه الحاكم على شرط البخاري ومسلم، ولكن الصواب أن الحديث موقوف على ابن عباس، وليس مرفوعًا."
كما أشار الشيخ عصام الدين إلى أن الذهبي وافق على تضعيفه.
النتيجة والخلاصة
◘ الجزء الأول من الحديث (خلق القلم وكتابة القدر) ثابت وصحيح عن النبي ﷺ.
◘ الجزء الثاني (النون، وبخار الماء، وتفطير السماوات) غير صحيح مرفوعًا، وإنما هو موقوف على ابن عباس رضي الله عنه، وفيه إسرائيليات.
◘ تصحيح الحاكم للحديث غير مقبول، وقد ضعّفه الذهبي وغيره من المحققين.
يجب الاقتصار في باب العقائد والخلق الأول على ما ثبت نصًا صحيحًا عن النبي ﷺ دون الخوض في الإسرائيليات أو الغيبيات المروية عن أهل الكتاب.
المصادر والمراجع
◘ المستدرك على الصحيحين – الحاكم النيسابوري، ومعه تلخيص الذهبي (ج 2 ص 540).
◘ جامع الأحاديث القدسية – عصام الدين بن سيد بن عبد رب النبي (ج 1 ص 153).
◘ تفسير ابن كثير – أبو الفداء إسماعيل بن كثير (ج 4 ص 408).
◘ مسند أحمد (حديث عبادة بن الصامت).
◘ جامع الترمذي (2155).
◘ السلسلة الصحيحة – الألباني (رقم 133).