مناقشة دعوى تحريم ابن تيمية لزيارة القبور: التفريق بين الزيارة المشروعة والسفر إليها
لطالما كانت مسألة زيارة القبور وشد الرحال إليها إحدى أبرز نقاط الخلاف التي أثيرت حول شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية رحمه الله، بدءًا من حياته وحتى بعد مماته. فقد اتخذت هذه المسألة - إلى جانب مسألة التوسل - طابعًا خاصًا من الإثارة والنقاش، مما دفع ابن تيمية إلى تأليف كتب ورسائل متخصصة، مثل "الرد على الأخنائي" و"الرد على البكري"، لتوضيح موقفه وبيان وجه الحق للعامة والخصوم. يتمحور هذا المبحث حول مناقشة الدعوى التي تزعم أنَّ شيخ الإسلام ينهى عن زيارة القبور مطلقًا، وكشف الفروق الدقيقة في مذهبه بين أنواع الزيارة وأحكام السفر إليها، بناءً على تتبعه لأقوال السلف والأدلة الشرعية.
| 
			 المحور الأول: موقف ابن تيمية من لفظ "الزيارة" وتفصيله لأحكامها  | 
		
إجمال لفظ (الزيارة) والحاجة إلى التفصيل:
أوضح ابن تيمية رحمه الله أنَّ لفظ (الزيارة) لفظ مُجمل يحتمل معنيين:
1) الزيارة الشرعية (المستحبة): التي هدفها تذكر الآخرة والدعاء للميت.
2) الزيارة البدعية: التي تتضمن الشرك أو وسائله، والتي أصبحت هي المفهوم السائد لزيارة قبور الأنبياء والصالحين عند كثير من العامة.
لذا، رأى ابن تيمية أنه إذا كان اللفظ يحتمل الحق والباطل، فمن الأفضل العدول عنه إلى لفظ لا لبس فيه، مثل لفظ السلام على النبي (72)، لدرء الفتنة وسدّ الذرائع إلى الشرك.
استعراض خلاف السلف في حكم الزيارة:
بيَّن شيخ الإسلام أنَّ مسألة الزيارة لم تكن موضع إجماع بين السلف، بل كان فيها خلاف، حيث ذكر:
◘ طائفة من السلف يرون أنَّ زيارة القبور مُحرَّمة مطلقًا، وأنَّ أحاديث النسخ لم تثبت أو لم تشتهر (73).
◘ نقل عن التابعين الأجلاء كـالنخعي (ت - 96هـ)، والشعبي (ت - 104هـ)، وابن سيرين (ت - 110هـ) أنهم يكرهونها أو لا يستحبونها مطلقًا (73) (74). ونقل ابن بطال عن الشعبي قوله: "لولا أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ نَهَى عن زيارةِ القبورِ لزُرْتُ قبرَ ابني" (76).
هذا الاستعراض يهدف إلى إثبات أنَّ الخلاف في أصل الزيارة كان موجودًا، وأنَّ النهي الأصلي قد قيل في سببه: خوف الشرك، أو النياحة، أو التفاخر بالموتى (78).
تفصيل ابن تيمية لأنواع الزيارة (الرد على الشبهة):
ردًّا على شبهة تحريمه المطلق للزيارة، فصَّل ابن تيمية أقسام الزيارة وأحكامها بناءً على ما تتضمنه:
| 
			 نوع الزيارة  | 
			
			 حكمها  | 
			
			 السبب والدليل  | 
		
| 
			 الزيارة المحرَّمة  | 
			
			 مُحرَّمة  | 
			
			 إذا تضمنت شركًا، أو نَدبًا، أو نياحة، أو كذبًا، أو أي من المنهيات الشرعية.  | 
		
| 
			 الزيارة المباحة  | 
			
			 مُباحة  | 
			
			 إذا كانت لمجرد الحزن على الميت لقَرابة أو صداقة، دون دعاء أو استغفار (كما في زيارة قبر الكافر) (80).  | 
		
| 
			 الزيارة المستحبة  | 
			
			 مُستحبة (سُنّة)  | 
			
			 إذا كانت لقبور المؤمنين، وهدفها تذكر الآخرة والدعاء للموتى، كالصلاة على الجنازة (81).  | 
		
خلاصة الرد:
بهذا التفصيل، يتضح أنَّ ابن تيمية لم يُحرّم زيارة القبور مطلقًا، بل فرّق بين المحرَّم والمباح والمستحب، وموقفه هو مذهب الجمهور في استحباب الزيارة الشرعية (82).
| 
			 المحور الثاني: زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم (الشرعية والبدعية)  | 
		
الزيارة الشرعية لقبر النبي:
أكد ابن تيمية أنَّ زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم على الوجه الشرعي أمر مشروع باتفاق المسلمين، وهي تتمثل فيما يفعله المسلمون في مسجده:
◘ الصلاة في المسجد النبوي.
◘ السلام على النبي صلى الله عليه وسلم في الدخول للمسجد وفي الصلاة (التسليم المعروف) (83).
وقد أكد أنَّ زيارة قبره ليست واجبة باتفاق المسلمين، ولم يرد أمر خاص في الكتاب والسنة بوجوبها، بل الأمر هو بالصلاة والتسليم عليه (84). وشدد على أنَّ أهل المدينة لا يزورون القبر النبوي كلما دخلوا أو خرجوا من المسجد (85).
حكم إتيان القبر عند القدوم من سفر:
ذكر ابن تيمية الخلاف في حكم إتيان أهل المدينة أو غيرهم القبر النبوي عند القدوم من سفر:
القول الأول (الجواز): لفعل ابن عمر رضي الله عنهما، وإن لم تكن سنة مشهورة.
القول الثاني (المنع): والاكتفاء بالصلاة والسلام عليه في المسجد (85).
3. آداب السلام والدعاء عند القبر (موقف الأئمة):
السلام على النبي وصاحبيه: ذكر ابن تيمية خلاف الأئمة في كيفية السلام، حيث ذهب مالك، والشافعي، وأحمد إلى استقبال القبر واستدبار القبلة للسلام. بينما ذهب أبو حنيفة إلى أن المسلِّم يستدبر الحجرة أو يجعلها عن يساره (86).
وقت الدعاء: اتفقوا على أنَّ الدعاء يكون باستقبال القبلة (87).
الشبهة والرد (حكاية الإمام مالك):
الشبهة: الحكاية المنسوبة للإمام مالك أنه قال للمنصور لما سأله عن استقبال الحجرة بالدعاء: "هو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم" (87).
الرد: بيّن ابن تيمية أنَّ هذه الحكاية كذب على مالك، ولا إسناد لها، وتخالف ما ثبت عنه بأسانيد الثقات (88).
4. بدعية قصد القبر للدعاء والتبرك:
اعتبر ابن تيمية أنَّ قصد القبر للدعاء للنفس بدعة، لم يفعلها أحد من الصحابة (89)، وتساءل متعجبًا: كيف يُقصد الدعاء في مكان نُهي عن عبادة الله فيه بالصلاة لله؟ (91).
كما أكد على أنَّ التمسح بالقبر وتقبيله وتمريغ الخد عليه منهي عنه باتفاق المسلمين، وليس في الدنيا من الجمادات ما يُشرع تقبيلها إلا الحجر الأسود (92)، وكل هذا من أجل المحافظة على التوحيد وحماية جنابه، حيث إنَّ اتخاذ القبور مساجد من أصول الشرك (نوح: 23).
| 
			 المحور الثالث: شدُّ الرحال: لبُّ الخلاف وأدلته  | 
		
إنَّ حقيقة الخلاف مع ابن تيمية لا تدور حول أصل الزيارة، بل حول حكم السفر بقصد زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره، وهو ما يُعرف بـشدِّ الرحال.
إقرار ابن تيمية بعدم تحريم الزيارة:
أكد ابن تيمية رحمه الله على أنه يجيز الزيارة الشرعية، وأنَّ ما نُسِب إليه من تحريم مطلق هو افتراء باطل. وقد أنصفه ابن عابدين (93) بقوله: "وما نُسب إلى الحافظِ ابنِ تيميةَ الحنبليِّ من أنه يقولُ بالنهيِ عنها – أي زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم – فقد قال بعضُ العلماءِ: إنه لا أصلَ له، وإنما يقولُ بالنهيِ عن شدِّ الرحالِ إلى غيرِ المساجدِ الثلاثِ" (95).
الرد على الاستدلال بآية ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا﴾:
الشبهة: الاستدلال بقوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا﴾ (النساء: 64)، على مشروعية المجيء إلى القبر والاستغفار عنده بعد وفاته.
الرد: بيّن ابن تيمية أنَّ المجيء المذكور في الآية هو المجيء إليه في حياته، أما بعد وفاته، فالمجيء إليه كالدعاء إليه والرد إليه، وهو الرجوع إلى ما بعث به من الكتاب والحكمة، كقوله تعالى: ﴿تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ﴾ (النساء: 61). أما المجيء للقبر لطلب الاستغفار أو الدعاء، فلا أصل له، ولم يفعله أحد من سلف الأمة المعروفين في القرون الثلاثة (96).
تضعيف أحاديث فضل الزيارة المخصوصة:
أكد ابن تيمية أنَّ الأحاديث التي تحث على زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم بخصوصها لا يصح منها شيء، بل هي إما موضوعة أو ضعيفة جدًا لا يصح الاحتجاج بها. وقد استعرض تضعيفها حديثًا حديثًا:
◘ حديث: "مَن زَارَ قَبْرِي وَجَبَتْ لَهُ شَفَاعَتِي": ضعيف، فيه موسى بن هلال (مجهول أو لا يُتابَع على حديثه)، وعبد الله بن عمر العمري المكبر (مُضعَّف)، وقد صرَّح ابن حجر بأنه عن المُكبَّر لا المُصغَّر الثقة (106) (107).
◘ حديث: "مَنْ حَجَّ فَزَارَ قَبْرِي بَعْدَ وَفَاتِي، فَكَأَنَّمَا زَارَنِي فِي حَيَاتِي": ضعيف جدًا أو متروك، فيه حفص بن سليمان (متروك الحديث) وليث بن أبي سليم (ضعيف متروك الحديث) (116) (117) (118).
◘ حديث: "مَنْ حَجَّ البَيْتَ وَلَمْ يَزُرْنِي فَقَدْ جَفَانِي": موضوع، كما قال الذهبي وغيره، ومعناه مخالف للإجماع، فترك الزيارة ليس من الكبائر (121) (124).
مناقشة الإجماع والقياس:
ردَّ ابن تيمية على دعوى الإجماع على استحباب السفر لزيارة القبر بأكثر من أربعين وجهًا، ملخصها:
الخلاف في السفر لا أصل الزيارة: إنَّ الخلاف ليس في أصل الزيارة (فهي مستحبة عند الجمهور)، بل في السفر لزيارتها، وهذا ليس عليه إجماع، بل فيه نزاع مشهور، والقاعدة تقتضي ردَّه إلى الكتاب والسنة (139).
بطلان القياس: قياس زيارة القبر على زيارة الحي قياس فاسد، فمشاهدة الحي ومجالسته وسماعه لا يتحقق في رؤية القبر أو الجدار، ومن قال بهذا القياس "مُصاب في عقله ودينه" (165).
| 
			 المحور الرابع: التفصيل في حديث "لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ"  | 
		
دلالة الحديث على النهي:
أكد ابن تيمية أنَّ حديث "لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ" يُقصد به النهي عن السفر إلى غير المساجد الثلاثة (المسجد الحرام، المسجد النبوي، والمسجد الأقصى) (146).
الرد على القول بنفي الاستحباب: ردَّ على من زعم أنَّ النفي هنا محمول على نفي الاستحباب بثلاثة أوجه، أهمها: أنَّ النفي يقتضي النهي والتحريم، وأنَّ المسافر لا يسافر إلا لاعتقاده أنها قربة، واتخاذها قربة محرم بالإجماع إذا لم يشرعها النبي (159).
2. ترجيح تقدير الاستثناء بلفظ (مكان):
رجَّح ابن تيمية تقدير الاستثناء المفرغ بلفظ (مكان)، فيكون المعنى: "لا تشد الرحال إلى مكان إلا إلى ثلاثة مساجد" (160).
الرد على شبهة التعطيل: ردّ على من ظنَّ أنَّ هذا التقدير يلزم منه النهي عن السفر لطلب علم أو تجارة، وبيّن أنَّ السفر إلى تلك الأمور لا يُقصد به مكان معين لذاته، بل المقصود هو المطلوب حيث كان صاحبه، ولهذا لم يفهم أحد من السلف هذا التعطيل (160).
3. مشروعية السفر للزيارة (الوسيلة والقربة):
الشبهة: إذا كانت الزيارة جائزة أو قربة، فـالوسيلة إليها جائزة أو قربة (قاعدة: وسيلة القربة قربة).
الرد: بيَّن ابن تيمية أنَّ هذه القاعدة باطلة على إطلاقها. فليس كل ما كان مشروعًا جاز التوسل إليه بكل طريق، بل قد يكون العمل مشروعًا في أصله (مثل الصلاة والاعتكاف)، لكنَّ الطريق إليه محرم أو غير مشروع (مثل شد الرحال لغير المساجد الثلاثة للصلاة فيها) (167). كما أنَّ الرحلة إلى القربة تكون معصية في الشريعة، مثل سفر المرأة للحج التطوعي دون إذن زوجها (167).
الخلاصة: إنَّ ابن تيمية لم يمنع الزيارة الشرعية، ولكنه حرم شد الرحال (السفر) بقصد زيارة القبور؛ لعدم ورود السنة به، وعملًا بحديث "لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ"، وحماية لجناب التوحيد من الشرك وذرائعه، وهو بذلك متابع للسلف والأئمة (155) (168).
| 
			 المصادر والمراجع  | 
		
(72-74) المصدر الأصلي غير مذكور في النص.
(75) ابن بطال (المصدر الأصلي غير مذكور في النص).
(76-92) المصدر الأصلي غير مذكور في النص.
(93) ابن عابدين (المصدر الأصلي غير مذكور في النص).
(94-96) المصدر الأصلي غير مذكور في النص.
(97) الدارقطني (المصدر الأصلي غير مذكور في النص).
(98) سنن الدارقطني (المصدر الأصلي غير مذكور في النص).
(99) أبو حاتم (ت - 277) (المصدر الأصلي غير مذكور في النص).
(100) العقيلي (المصدر الأصلي غير مذكور في النص).
(101) المصدر الأصلي غير مذكور في النص.
(102) ابن عدي (المصدر الأصلي غير مذكور في النص).
(103) المصدر الأصلي غير مذكور في النص.
(104) الذهبي (ت - 748هـ) (المصدر الأصلي غير مذكور في النص).
(105) المصدر الأصلي غير مذكور في النص.
(106) الحافظ ابن حجر (ت - 852هـ) (المصدر الأصلي غير مذكور في النص).
(107) ابن عبد الهادي (ت - 744هـ) (المصدر الأصلي غير مذكور في النص).
(108) البيهقي (المصدر الأصلي غير مذكور في النص).
(109) سنن البيهقي (المصدر الأصلي غير مذكور في النص).
(110) الدارقطني (ت - 385هـ) في سننه (المصدر الأصلي غير مذكور في النص).
(111) البخاري (ت - 256هـ) (المصدر الأصلي غير مذكور في النص).
(112) ابن حبان (المصدر الأصلي غير مذكور في النص).
(113) المجروحين (المصدر الأصلي غير مذكور في النص).
(114) ابن أبي حاتم (ت - 327هـ) (المصدر الأصلي غير مذكور في النص).
(115) ابن عدي (ت - 365هـ) (المصدر الأصلي غير مذكور في النص).
(116) ابن حجر (ت - 852هـ) (المصدر الأصلي غير مذكور في النص).
(117) تقريب التهذيب (المصدر الأصلي غير مذكور في النص).
(118) المصدر الأصلي غير مذكور في النص.
(119) ابن عدي (ت - 365هـ) (المصدر الأصلي غير مذكور في النص).
(120) ابن حبان (ت - 354هـ) (المصدر الأصلي غير مذكور في النص).
(121) الذهبي (ت - 748هـ) (المصدر الأصلي غير مذكور في النص).
(122-124) المصدر الأصلي غير مذكور في النص.
(125) البيهقي (ت - 458هـ) في سننه (المصدر الأصلي غير مذكور في النص).
(126) المصدر الأصلي غير مذكور في النص.
(127) ابن عبد الهادي (ت - 744هـ) (المصدر الأصلي غير مذكور في النص).
(128) المصدر الأصلي غير مذكور في النص.
(129) الذهبي (ت - 748هـ) (المصدر الأصلي غير مذكور في النص).
(130) ابن عدي (ت - 365هـ) (المصدر الأصلي غير مذكور في النص).
(131) الأزدي (المصدر الأصلي غير مذكور في النص).
(132) الذهبي (ت - 748هـ) (المصدر الأصلي غير مذكور في النص).
(133) الحافظ ابن حجر (ت - 852هـ) (المصدر الأصلي غير مذكور في النص).
(134) ابن عبد الهادي (ت - 744هـ) (المصدر الأصلي غير مذكور في النص).
(135-168) المصدر الأصلي غير مذكور في النص.