ابن تيمية وزيارة القبور: رد شبهة التحريم وحكم شد الرحال للمساجد الثلاثة
أثيرت حول شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية رحمه الله اتهامات وشبهات عديدة تتعلق بمسألة زيارة القبور، خاصة زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، حيث زعم مناوئوه أنه يُحرِّمُ الزيارة مُطلقًا ويمنعُ شدَّ الرحالِ إليها. هذه المزاعم أدت إلى سجالات فقهية وعقدية طويلة. يهدف هذا المبحث إلى استعراض هذه المزاعم وتفنيدها من خلال عرض أدلة الخصوم والردود عليها، والتركيز على الخلاف الجوهري المتعلق بمسألة السفر بقصد زيارة القبور، مع بيان أنَّ الخلاف مع شيخ الإسلام لم يكن في أصل مشروعية زيارة القبر (لِمَن كان في المدينة)، بل في حكم السفر إليها.
| 
			 الزعم بأن شيخ الإسلام ينهى عن زيارة القبور  | 
		
زعمَ المناوئونَ لشيخِ الإسلامِ ابنِ تيميةَ رحمه اللهُ أنه يمنعُ من زيارةِ القبورِ مُطلقًا ويقولُ بتحريمِها، وأنَّه يستدلُّ بحديثِ «لَعَنَ اللهُ زَوَّارَاتِ القُبُورِ» (55) على منعِ الزيارةِ مُطلقًا.
كما زعموا أنه يُنكرُ مشروعيةَ زيارةِ قبرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم مُطلقًا، حتى لِمَن كانَ في المسجدِ النبويِّ لا يُشرعُ له ذلك. وقد نقلَ الحصنيُّ (ت - 829هـ) عن شيخِ الإسلامِ رحمه اللهُ أنه «وجدوا صورةَ فتوى أخرى يقطعُ فيها بأنَّ زيارةَ قبرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقبورِ الأنبياءِ معصيةٌ بالإجماعِ مقطوعٌ بها» (56). وزعمَ بعضُهم بأنَّ شيخَ الإسلامِ هو أولُ مَن قالَ بهذا القولِ (57).
| 
			 أدلةُ القائلينَ بمشروعيةِ شدِّ الرحالِ لزيارةِ قبرِ النبيِّ  | 
		
يستدلُّ القائلونَ بمشروعيةِ زيارةِ قبرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلمَ والسفرِ إليها بأدلةٍ من الكتابِ والسنةِ والإجماعِ والقياسِ:
الدليلُ من الكتابِ:
قولُ اللهِ عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا﴾ (النساء: 64).
قالَ ابنُ حجرٍ الهيتميُّ (ت - 973هـ) عن هذه الآيةِ: «دلتْ على حثِّ الأمةِ على المجيءِ إليهِ صلى الله عليه وسلم، والاستغفارِ عندَه، واستغفارِهِ لهم، وهذا لا ينقطعُ بموتِه. ودلتْ - أيضًا - على تعليقِ وجدانِهم اللهَ توَّابًا رحيمًا بمجيئهم واستغفارِهم واستغفارِ الرسولِ لهم» (58).
الأدلةُ من السنةِ:
يستدلُّون بأحاديثَ عدَّةٍ، منها:
◘ حديثُ: «مَن زَارَ قَبْرِي وَجَبَتْ لَهُ شَفَاعَتِي».
◘ حديثُ: «مَنْ حَجَّ فَزَارَ قَبْرِي بَعْدَ وَفَاتِي، فَكَأَنَّمَا زَارَنِي فِي حَيَاتِي».
◘ حديثُ: «مَنْ حَجَّ البَيْتَ وَلَمْ يَزُرْنِي فَقَدْ جَفَانِي».
◘ حديثُ: «مَنْ زَارَ قَبْرِي، أَوْ مَنْ زَارَنِي كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا أَوْ شَهِيدًا»، وغيرها من الأحاديثِ (59).
ويرى أولئك أنَّ الزيارةَ سنةٌ مؤكَّدةٌ، وأنَّ تركَها جفاءٌ وقطيعةٌ، ويُخشى على تاركِها العواقبُ؛ لأنَّ الرسولَ صلى الله عليه وسلمَ حذَّرَ أمتَهُ من تركِها بأشدِّ التحذيرِ (60).
الإجماعُ والقياسُ:
الإجماعُ: قالَ ابنُ حجرٍ الهيتميُّ: «وأما إجماعُ المسلمينَ فقد نقلَ جماعةٌ من الأئمةِ حَمَلَةِ الشرعِ الشريفِ الذينَ عليهم المدارُ والمعوَّلُ في نقلِ الخلافِ والإجماعِ» (61) على مشروعيةِ الزيارةِ.
القياسُ: تُقاسُ زيارةُ قبرِ نبيِّنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم على زيارةِ قبورِ غيرِه، بل زيارةُ قبرِهِ «أولى وأحرى، وأحقُّ وأعلى» (62).
| 
			 توجيهُ كراهةِ الإمامِ مالكٍ للفظِ "الزيارة"  | 
		
يردُّ المناوئونَ على كراهيةِ الإمامِ مالكٍ (ت - 179هـ) رحمه اللهُ قولَ بعضِ الناسِ: "زرتُ قبرَ النبيِّ"، بعدةِ توجيهاتٍ:
1) لِرفعةِ مكانةِ النبيِّ: كراهةُ مالكٍ للفظةِ (الزيارة) لعدمِ مساواةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بغيرِه بعبارةٍ واحدةٍ تُستعمَلُ في زيارةِ قبرِ أيِّ ميتٍ.
2) حاجةُ الزائرِ لا المزورِ: كرهَ اللفظَ لأنَّ الزيارةَ تكونُ لِوَصْلِ المزورِ ونفعِهِ، والرسولُ صلى الله عليه وسلمَ لا يحتاجُ إلى ذلك، والحاجةُ للزائرِ في طلبِ الثوابِ.
3) الكراهةُ لِإضافةِ اللفظِ للقبرِ: كراهيةُ الإمامِ مالكٍ للفظةِ (الزيارة) إنما هيَ لِإضافتِها إلى القبرِ، ولو قالَ: "زرنا النبيَّ صلى الله عليه وسلم" لَمَا كَرِهَه، وذلكَ لِقولِهِ صلى الله عليه وسلمَ: «اللهمَّ لا تجعلْ قبري وثنًا يُعبَدُ اشتدَّ غضبُ اللهِ على قومٍ اتَّخذُوا قبورَ أنبيائِهم مساجدَ» (63)، وبه قالَ القاضي عياضٌ رحمه اللهُ (64).
4) الزيارةُ سنةٌ واجبةٌ: كراهةُ مالكٍ للفظِ (الزيارة) لأنَّها تُوحي بالاختيارِ بينَ الفِعلِ والتركِ، بينما يرى هؤلاءِ أنَّ زيارةَ قبرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم من السننِ الواجبةِ (65).
| 
			 حقيقةُ موقفِ ابنِ تيميةَ من شدِّ الرحالِ للقبور  | 
		
يدَّعي المناوئونَ لابنِ تيميةَ أنه يُحرِّمُ شدَّ الرحالِ لزيارةِ قبرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وقبرِ غيرِه من الأنبياءِ والصالحينَ، وأنه قد بلغَ الغُلوَّ في هذا الأمرِ (66).
ولذلكَ رَدُّوا عليهِ، فجعلَ السبكيُّ (ت - 756هـ) من شبهِ الخصمِ (ابنِ تيميةَ) فهمَهُ الخاطئَ لحديثِ شدِّ الرحلِ، فقالَ: «فتوهَّمَ الخصمُ أنَّ في هذا منعَ السفرِ للزيارةِ، وليسَ كما توهَّمَه» (67). وجعلَ من شبهِهِ أيضًا: كونَ السفرِ لزيارةِ القبرِ ليسَ مشروعًا، وأنه من البدعِ (68).
ويرى هؤلاءِ أنَّ تقديرَ الاستثناءِ في حديثِ «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ...» يجبُ أن يكونَ مُنصبًّا على المساجدِ دونَ الأماكنِ أو القبورِ، ويرونَ أنَّ تقديرَ الاستثناءِ بلفظِ (قبر) أو (مكان) باطلٌ ولا قائلَ به (69).
ويحثُّ المناوئونَ على شدِّ الرحلِ لزيارةِ القبرِ ويندبونَ إليها حتى للنساءِ، ويرونَ أنه لا زيارةَ إلَّا بسفرٍ.
ويؤكدُ ابنُ حجرٍ الهيتميُّ على هذا، قائلًا: «وجهُ شمولِ الزيارةِ للسفرِ أنها تستدعي الانتقالَ من مكانِ الزائرِ إلى مكانِ المزورِ... وإذا كانتْ كلُّ زيارةٍ قُربةً كانَ كلُّ سفرٍ إليها قُربةً... والقاعدةُ المتَّفقُ عليها أنَّ وسيلةَ القُربةِ المتوقِّفةِ عليها قُربةٌ» (70). ولا يكتفونَ بكونِها قُربةً، بل هيَ من أعظمِ القرباتِ عندَ اللهِ عزَّ وجلَّ (71)
| 
			 المصادر والمراجع  | 
		
(55) المصدر الأصلي غير مذكور في النص.
(56) الحصني (ت - 829هـ) (المصدر الأصلي غير مذكور في النص).
(57) المصدر الأصلي غير مذكور في النص.
(58) ابن حجر الهيتمي (ت - 973هـ) (المصدر الأصلي غير مذكور في النص).
(59) المصدر الأصلي غير مذكور في النص.
(60) المصدر الأصلي غير مذكور في النص.
(61) ابن حجر الهيتمي (ت - 973هـ) (المصدر الأصلي غير مذكور في النص).
(62) المصدر الأصلي غير مذكور في النص.
(63) المصدر الأصلي غير مذكور في النص.
(64) القاضي عياض رحمه الله (المصدر الأصلي غير مذكور في النص).
(65) المصدر الأصلي غير مذكور في النص.
(66) المصدر الأصلي غير مذكور في النص.
(67) السبكي (ت - 756هـ) (المصدر الأصلي غير مذكور في النص).
(68) المصدر الأصلي غير مذكور في النص.
(69) المصدر الأصلي غير مذكور في النص.
(70) ابن حجر الهيتمي (ت - 973هـ) (المصدر الأصلي غير مذكور في النص).
(71) المصدر الأصلي غير مذكور في النص.