مقدمة: حقيقة الأسماء الإلهية بين الوحي والعقل
تُعد مسألة أسماء الله الحسنى وصفاته العُلا من أجلّ وأعظم مباحث العقيدة الإسلامية، فهي أساس معرفة العبد بربه، ومفتاح عبادته ودعائه. وقد وردت نصوص شرعية عديدة في القرآن الكريم كما في قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾ (الأعراف: 180). والسنة النبوية الشريفة تؤكد عظمة هذه الأسماء وكمالها. ومع ذلك، يثير البعض شبهة التعارض بين هذه النصوص، مستندين إلى حديث "إن لله تسعة وتسعين اسماً، مائة إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة"، وبين حديث الدعاء الذي يشير إلى أسماء "استأثرت بها في علم الغيب عندك". فهل هناك حقاً تعارض بين النصوص النبوية؟ وما هو المعنى الحقيقي لـ "إحصاء" هذه الأسماء؟ يهدف هذا المقال إلى تفنيد هذه الشبهة، وتقديم الرؤية الشرعية والعلمية الصحيحة لهذه المسألة الجليلة، معتمداً على أقوال كبار علماء الأمة ومحققيهم.
الشبهة والرد عليها: أسماء الله الحسنى بين الحصر والإطلاق
|
أولاً: مضمون الشبهة |
يدّعي بعض المشككين وجود تعارض واضح بين الأحاديث النبوية المتعلقة بعدد أسماء الله الحسنى. ويقوم ادعاؤهم على نقطتين رئيسيتين:
حديث الحصر:
استدلالهم بحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا، مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ» [1]. حيث يزعمون أن هذا الحديث يحصر أسماء الله في هذا العدد تحديداً.
حديث الإطلاق:
تعارض هذا الحصر المزعوم مع حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في دعاء الكرب، وفيه: «...أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ...» [2]. فالشطر الأخير من الحديث يدل على وجود أسماء لم يُنزلها الله في كتابه ولم يُطلع عليها أحداً من خلقه، مما يعني أن الأسماء أكثر من تسعة وتسعين.
ويتساءل المشككون: كيف يمكن التوفيق بين حديث يحدد العدد بـ 99، وحديث آخر يثبت وجود أسماء مستأثر بها في علم الغيب؟
|
ثانياً: تفنيد الشبهة والرد العلمي |
لا يوجد أي تعارض بين الأحاديث النبوية الشريفة، فكلام النبي صلى الله عليه وسلم لا يتناقض. وقد أجمع علماء أهل السنة والجماعة على أن أسماء الله تعالى ليست محصورة بعدد معين، وأن حديث التسعة والتسعين ليس من باب الحصر، بل من باب الإخبار عن فضيلة إحصاء هذا العدد.
.
|
أسماء الله غير محصورة بعدد: |
إن عقيدة أهل السنة والجماعة قائمة على أن أسماء الله تعالى توقيفية (لا مجال للعقل فيها)، وكثيرة لا حصر لها، وهذا ما يدل عليه حديث ابن مسعود رضي الله عنه الذي قسّم الأسماء إلى أربعة أقسام:
|
القسم |
المصدر |
الدلالة على عدم الحصر |
|
1. سميت به نفسك |
أظهره لمن شاء من ملائكته أو غيرهم ولم ينزل به كتابه. |
أسماء معلومة لله ولبعض خلقه. |
|
2. أنزلته في كتابك |
ما ورد في القرآن الكريم والسنة الصحيحة. |
الأسماء التي أطلعنا الله عليها. |
|
3. علمته أحداً من خلقك |
ما علمه الله لعبد من عباده فدعاه به. |
أسماء معلومة لبعض الخلق دون غيرهم. |
|
4. استأثرت به في علم الغيب عندك |
لم يطلع عليه ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً. |
الأسماء الغيبية التي لا يعلمها إلا الله، وهي الدليل القاطع على عدم الحصر. |
وقد أكد العلماء هذا المعنى:
الإمام النووي:
"واتفق العلماء على أن هذا الحديث ليس فيه حصر لأسمائه - سبحانه وتعالى - فليس معناه: أنه ليس له أسماء غير هذه التسعة والتسعين، وإنما مقصود الحديث أن هذه التسعة والتسعين من أحصاها دخل الجنة" [3].
شيخ الإسلام ابن تيمية:
"والصواب الذي عليه جمهور العلماء أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا، من أحصاها دخل الجنة" معناه أن من أحصى التسعة والتسعين من أسمائه دخل الجنة، وليس مراده أنه ليس له إلا تسعة وتسعون اسما" [4].
الخطابي:
بيّن أن الحديث فيه إثبات لهذه الأسماء المحصورة بهذا العدد، وليس فيه نفي ما عداها، وهو كقولك: "إن لزيد ألف درهم أعدها للصدقة"، وهذا لا ينفي أن يكون عنده أكثر من ذلك [5].
الخلاصة: حديث التسعة والتسعين يخبر عن فضل إحصاء هذا العدد من بين مجموع أسماء الله الكثيرة، وليس عن حصر الأسماء كلها في هذا العدد.
|
الحكمة من عدم تحديد الأسماء: |
إن عدم تحديد النبي صلى الله عليه وسلم للأسماء التسعة والتسعين، وإخفاء بعضها في علم الغيب، هو لحكم وغايات عظيمة، منها:
1) الحث على الاجتهاد: لكي يجتهد المسلمون في البحث عن هذه الأسماء في الكتاب والسنة، والدعاء والتعبد بها كلها، رجاء أن يقعوا على الأسماء الموعود بإحصائها دخول الجنة، وهذا شبيه بإخفاء ليلة القدر وساعة الإجابة يوم الجمعة [6].
2) إثبات بشرية النبي: عدم علم النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الأسماء المستأثرة دليل على بشريته وعدم اطلاعه على الغيب، كما قال تعالى على لسان نبيه: ﴿وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ﴾ (الأعراف: 188).
3) ضعف روايات التعيين: جميع الروايات التي وردت في سرد وتعيين الأسماء التسعة والتسعين هي روايات ضعيفة ومدرجة، وليست من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ما أجمع عليه المحققون من أهل العلم كابن حجر وابن القيم وابن كثير [7]. ولو كانت هذه الأسماء محددة وثابتة لكانت متواترة أو صحيحة السند.
|
معنى "من أحصاها دخل الجنة" |
إن كلمة "أحصاها" الواردة في الحديث ليست مقصورة على مجرد الحفظ عن ظهر قلب، بل هي كلمة جامعة لمعانٍ متعددة، والمراد منها هو العمل بمقتضى هذه الأسماء، وهو ما يمثل قطب السعادة والنجاة.
|
المرتبة |
المعنى |
الشرح والدلالة |
|
1. الإحصاء اللفظي |
العد والحفظ: حفظ ألفاظها وعددها، واستيفاؤها بالدعاء والثناء. |
هذا هو أضعف المعاني، ولا يكفي وحده لدخول الجنة. |
|
2. الإحصاء العلمي |
فهم المعاني: معرفة معانيها ومدلولها، والإيمان بها وتدبرها. |
الإحاطة بمعاني الاسم، كأن تعلم أن الرزاق هو المتكفل برزقك. |
|
3. الإحصاء العملي |
العمل بمقتضاها: التعبد لله بها، والقيام بحق كل اسم، والتحلي بما يمكن التحلي به من صفاتها. |
إذا قال: الرحيم، اجتهد في الرحمة، وإذا قال: القدوس، استحضر تنزهه عن النقائص. |
وقد أوضح الإمام النووي أن المراد بالإحصاء هو العمل بمقتضاها، وأن مجرد الحفظ لا يكفي، وإلا لتواكل الناس [8]. فالمؤمن يمتاز عن غيره بالإيمان والعمل بهذه الأسماء، وليس بمجرد حفظها.
|
شروط التسمية والوصف الإلهي |
ختاماً:
يؤكد أهل العلم على أن التسمية والوصف الإلهي أمر توقيفي لا يجوز فيه الاجتهاد، ولا يحق لأحد أن يسمي الله باسم أو يصفه بصفة لم تثبت عنه أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم. وللأسماء والصفات الإلهية شروط يجب مراعاتها [9]:
1) الثبوت الشرعي: ثبوت الاسم أو الصفة في القرآن الكريم أو السنة النبوية الصحيحة.
2) العلمية اللغوية: أن يكون الاسم علماً مستوفياً للعلامات اللغوية.
3) الإطلاق: إطلاق الاسم دون إضافة أو تقييد (مثل الرحمن، وليس رحيم بعباده).
4) دلالة الاسم على الوصف: أن يدل الاسم على صفة كمال وجلال.
5) دلالة الوصف على الكمال المطلق: أن يكون الوصف دالاً على الكمال المطلق المنزه عن أي نقص.
إن أسماء الله الحسنى وصفاته العُلا هي صفات كمال وجلال، وهي لا تتناهى ولا تقف عند حد، فالله تعالى لا يعرف قدره أحد من خلقه، كما قال تعالى: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ (الزمر: 67).
|
المصادر والمراجع |
[1] صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: التوحيد، باب: إن لله مائة اسم إلا واحدة، (13/ 389)، رقم (7392). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الذكر والدعاء، باب: في أسماء الله تعالى، (9/ 3793)، رقم (6684).
[2] صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند عبد الله بن مسعود، (5/ 266)، رقم (3712). وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند.
[3] شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (9/ 3794).
[4] مجموع الفتاوى، ابن تيمية، تحقيق: أنور الباز وعامر الجزار، دار الوفاء، مصر، ط3، 1426هـ/ 2005م، (6/ 382) بتصرف.
[5] شأن الدعاء، الخطابي، تحقيق: أحمد يوسف الدقاق، دار الثقافة العربية، بيروت، ط3، 1412هـ/ 1992م، ص23، 24.
[6] فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1986م، (11/ 221).
[7] انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر، (11/ 219)، ومدارج السالكين، ابن القيم، (3/ 433)، وتفسير القرآن العظيم، ابن كثير، (2/ 269).
[8] شرح صحيح مسلم، النووي، (9/ 3794).
[9] انظر: أسماء الله الحسنى، د. محمود عبد الرزاق الرضواني، مكتبة سلسبيل، القاهرة، ط1، 1426هـ/ 2005م، ص49: 78.