تُعد زيارة القبور من الشعائر التي تحمل دلالات روحية عميقة في الوجدان الإسلامي، فهي تذكير بالآخرة وموعظة بليغة للحيّ، ووصلٌ للماضي بالحاضر. إلا أن هذه الممارسة تحيط بها مجموعة من الأحكام والآداب التي تضبطها وتمنع تحولها إلى ممارسات تخالف جوهر التوحيد. يتناول هذا المقال دراسة معمقة لأحكام زيارة القبور وبناء المساجد عليها وتجصيصها وتطيينها، كما وردت في روايات أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ومصادر الفقه الإمامي المعتبرة. سنستعرض النصوص التي تُجيز الزيارة وتلك التي تنهى عن الإفراط فيها أو تحويلها إلى مواضع عبادة، مع التركيز على الآداب الشرعية للتسليم على أهل القبور، مستهدفين تقديم رؤية واضحة ومتوازنة لهذه المسألة الفقهية الهامة.

الأحكام الفقهية لزيارة القبور في المصادر الإمامية

تشتمل الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) على تفصيل دقيق لأحكام زيارة القبور، حيث تُبيّن المشروع منها والممنوع، وتضع الآداب التي يجب الالتزام بها. وقد تناولت هذه الروايات مسائل متعددة، أبرزها حكم الزيارة في أصلها، والنهي عن بناء المساجد على القبور، وكيفية التسليم على أهلها، والأحكام المتعلقة بهيئة القبر نفسه.

حكم زيارة القبور والنهي عن البناء عليها:

أكدت الروايات على مشروعية زيارة القبور في أصلها، مع التحذير الشديد من اتخاذها مواضع للعبادة أو بناء المساجد عليها، وذلك سدًا لذريعة الغلو والشرك.

مشروعية الزيارة والنهي عن البناء:

 سُئل الإمام الصادق (عليه السلام) عن زيارة القبور وبناء المساجد فيها؟

 فأجاب: سألته عن زيارة القبور وبناء المساجد فيها، فقال: أما زيارة القبور فلا بأس بها ولا تبنى عندها المساجد.

الكافي للكليني الجزء الثالث ص228 (باب) (زيارة القبور)

وسأل سماعة بن مهران الصادق عليه السلامعن زيارة القبور وبناء المساجد فيها، فقال: أما زيارة القبور فلا بأس بها، ولا يبنى عندها مساجد ". 

من لا يحضره الفقيه للصدوق الجزء الأول ص 178

النهي النبوي عن اتخاذ القبر قبلة أو مسجدًا:

قال النبي صلى الله عليه وآله:لا تتخذوا قبري قبلة ولا مسجدا فإن الله عز وجل لعن اليهود حين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ". 

من لا يحضره الفقيه للصدوق الجزء الأول ص 178

النهي عن اتخاذ القبر عيدًا:

عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: " سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: لا تتخذوا قبري عيدا، ولا تتخذوا قبوركم مساجدكم، ولا بيوتكم قبورا ". 

مستدرك الوسائل للنوري الطبرسي الجزء الثاني ص 379 (باب كراهة بناء المساجد عند القبور)
 
عن جراح المدائني قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) كيف التسليم على أهل القبور؟ قال: تقول:السلام على أهل الديار من المسلمين والمؤمنين رحم الله المستقدمين منا والمستأخرين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ". 

الكافي للكليني الجزء الثالث ص229 (باب) (زيارة القبور)

آداب التسليم على أهل القبور:

تُبيّن الروايات الصيغة الشرعية للتسليم على الأموات، وهي صيغة تحمل الدعاء والاعتبار:

صيغة التسليم:

سُئل الإمام أبو عبد الله الصادق (عليه السلام) عن كيفية التسليم على أهل القبور، فقال: عن الحسين بن زيد، عن الصادق جعفر ابن محمد، عن أبيه، عن آبائه، عن أمير المؤمنين على بن أبى طالب (عليه السلام) قال:نهى أن تجصص المقابر ويصلى فيها

من لا يحضره الفقيه للصدوق الجزء الرابع ص4

أحكام هيئة القبر وما يُنهى عنه:

تضمنت الروايات أحكامًا تتعلق بهيئة القبر نفسه، وما يُكره أو يُنهى عنه من إضافات أو ممارسات:

النهي عن التجصيص والصلاة في المقابر: نُقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) أنه: عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله في هدم القبور وكسر الصور

الكافي للكليني الجزء السادس ص528

عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله إلى المدينة فقال: لا تدع صورة إلا محوتها، ولا قبرا إلا سويته، ولا كلبا إلا قتلته

الكافي للكليني الجزء السادس ص528

النهي عن الزيادة على تراب القبر: نُهي عن إضافة تراب للقبر لم يخرج منه، حيث ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) أن النبي (صلى الله عليه وآله):

النهي عن الصلاة والقعود والاتكاء على القبر: ورد عن الإمام الباقر (عليه السلام) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله):

عن أبي عبدالله (ع) عن أبيه قال: نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يصلى على قبر أو يقعد عليه أو يتكئ عليه أو يبنى عليه

الاستبصار للطوسي الجزء الأول ص482 باب الصلاة على المدفون.

عن علي بن جعفر قال: سألت أبا الحسن موسى (ع) عن البناء على القبر والجلوس عليه هل يصلح؟ قال: لا يصلح البناء عليه ولا الجلوس ولا تجصيصه ولا تطيينه

الاستبصار للطوسي الجزء الأول ص217 باب النهي عن تجصيص القبر وتطيينه

أمر النبي (صلى الله عليه وآله) بتسوية القبور وكسر الصور: تُشير بعض الروايات إلى مهمة كلف بها النبي (صلى الله عليه وآله) أمير المؤمنين (عليه السلام) تتعلق بتسوية القبور وإزالة مظاهر الغلو: عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما السلام أن قبر النبي صلى الله عليه وآله رفع شبرا من الأرض، وان النبي صلى الله عليه وآله أمر برش القبور

 علل الشرائع للصدوق الجزء الأول ص307 باب 255 - العلة التي من أجلها يرش الماء على القبر.

عن أبي عبدالله (عليه السلام) أن النبي (صلى الله عليه وآله) نهى أن يزاد على القبر تراب لم يخرج منه

 الكافي للكليني الجزء الثالث ص202 (باب)(تطيين القبر وتجصيصه).

رفع قبر النبي (صلى الله عليه وآله) ورش القبور: على الرغم من النهي عن الزيادة في تراب القبر، إلا أن الروايات ذكرت أن قبر النبي (صلى الله عليه وآله) رُفع "شِبْراً مِنَ الْأَرْضِ"، كما أمر النبي (صلى الله عليه وآله) بـ "رَشِّ الْقُبُورِ" [6]. ويُعلل رش القبور بالماء لثبات ترابها وتماسكها.

كرامة الإمام الحسين (عليه السلام) وما ورد في البكاء عليه

تضمنت الروايات أيضًا ما يتعلق بكرامة الإمام الحسين (عليه السلام) والآثار الكونية لمقتله، وهي روايات تُعظّم من شأنه وتُبيّن عظيم مصابه:

بكاء الكائنات على الحسين (عليه السلام): ورد عن الإمام الباقر (عليه السلام) أن: نُقل عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) قوله: عن أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: بكت الإنس والجن والطير والوحش على الحسين ابن علي (عليهما السلام) حتى ذرفت دموعها 

كامل الزيارات لابن قولويه ص165 عنه البحار 45: 205

عن الحسين بن ثوير بن أبي فاختة ويونس بن ظبيان وأبي سلمة السراج والمفضل بن عمر، كلهم قالوا: سمعنا أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن أبا عبد الله الحسين بن علي (عليهما السلام) لما مضى بكت عليه السماوات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن ومن ينقلب عليهن، والجنة والنار، وما خلق ربنا، وما يري وما لا يري 

كامل الزيارات لابن قولويه ص166 عنه البحار 45: 205

الوحوش تبكي على قبره:  عن الحارث الأعور، قال: قال علي (عليه السلام): بابي وأمي الحسين المقتول بظهر الكوفة، والله كأني انظر إلى الوحوش مادة أعناقها على قبره من أنواع الوحش، يبكونه ويرثونه ليلا حتى الصباح، فإذا كان ذلك فإياكم والجفاء

كامل الزيارات لابن قولويه ص165 – 166 عنه البحار 45: 205

استثناء بعض الأماكن والأشخاص من البكاء: وفي رواية أخرى عن الإمام الصادق (عليه السلام): عن يونس وأبي سلمة السراج والمفضل بن عمر قالوا: سمعنا ابا عبد الله (عليه السلام) يقول: لما مضى الحسين بن علي (عليهما السلام) بكى عليه جميع ما خلق الله إلا ثلاثة أشياء: البصرة ودمشق وآل عثمان 

كامل الزيارات لابن قولويه ص166 عنه البحار 45: 206، المستدرك 10: 312.

المصادر والمراجع (الحواشي)

[1] الكليني، محمد بن يعقوب. الكافي. ج 3، ص 228، باب زيارة القبور.

[2] الصدوق، محمد بن علي بن بابويه. من لا يحضره الفقيه. ج 1، ص 178.

[3] النوري الطبرسي، حسين. مستدرك الوسائل. ج 2، ص 379، باب كراهة بناء المساجد عند القبور.

[4] الكليني، محمد بن يعقوب. الكافي. ج 3، ص 229، باب زيارة القبور.

[5] الصدوق، محمد بن علي بن بابويه. من لا يحضره الفقيه. ج 4، ص 4.

[6] الصدوق، محمد بن علي بن بابويه. علل الشرائع. ج 1، ص 307، باب 255 - العلة التي من أجلها يرش الماء على القبر.

[7] الطوسي، محمد بن الحسن. الاستبصار. ج 1، ص 217، باب النهي عن تجصيص القبر وتطيينه.

[8] الكليني، محمد بن يعقوب. الكافي. ج 3، ص 202، باب تطيين القبر وتجصيصه.

[9] الطوسي، محمد بن الحسن. الاستبصار. ج 1، ص 482، باب الصلاة على المدفون.

[10] الكليني، محمد بن يعقوب. الكافي. ج 6، ص 528.

[11] الكليني، محمد بن يعقوب. الكافي. ج 6، ص 528.

[12] ابن قولويه، جعفر بن محمد. كامل الزيارات. ص 165. نقلاً عن: المجلسي، محمد باقر. بحار الأنوار. ج 45، ص 205.

[13] ابن قولويه، جعفر بن محمد. كامل الزيارات. ص 165-166. نقلاً عن: المجلسي، محمد باقر. بحار الأنوار. ج 45، ص 205.

[14] ابن قولويه، جعفر بن محمد. كامل الزيارات. ص 166. نقلاً عن: المجلسي، محمد باقر. بحار الأنوار. ج 45، ص 205.

[15] ابن قولويه، جعفر بن محمد. كامل الزيارات. ص 166. نقلاً عن: المجلسي، محمد باقر. بحار الأنوار. ج 45، ص 206. وأيضاً: النوري الطبرسي، حسين. المستدرك. ج 10، ص 312.