لطالما كانت قضية أسماء الله الحسنى وصفاته العلا من أعظم أبواب العقيدة الإسلامية، وقد تناولها القرآن الكريم والسنة النبوية بتأكيد وإجلال، كما في قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾ (الأعراف: 180). غير أن بعض المغرضين يثيرون شبهة التعارض الظاهري بين حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يحدد عددًا معينًا للأسماء («إِنَّ لِلهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا، مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ»)، وبين حديث الدعاء الشامل الذي يشير إلى أسماء مستأثَر بها في علم الغيب («...أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ...»). تهدف هذه المقالة إلى إبطال هذه الشبهة من أساسها، وتوضيح مراد النصوص النبوية الشريفة، وبيان أن هذا الاختلاف في الظاهر إنما هو دليل على كمال اللغة وشمول الشريعة.
|
رد الشبهة: لا تعارض بين أحاديث عدد أسماء الله الحسنى |
تَدّعي الشُّبهةُ وجودَ تعارضٍ بين النصوص التي تُحدِّد عددَ أسماءِ اللهِ الحسنى بتسعةٍ وتسعين، وبين النصوصِ التي تُشيرُ إلى أنَّ أسماءَه تعالى أكثرُ من ذلك، بل واستأثَرَ بعلمِ بعضِها في عِلمِ الغيب.
وهذا التعارُضُ الموهومُ مردودٌ من وجوهٍ عديدةٍ:
الأسماء الحسنى ليست محصورة بعدد:
إنَّ عقيدةَ أهلِ السنةِ والجماعةِ مُتَّفقَةٌ على أنَّ أسماءَ اللهِ تعالى توقيفيةٌ (لا مجالَ للعقلِ فيها)، وليستْ محصورةً بعددٍ معينٍ. وحديثُ التسعةِ والتسعينَ لا يُفيدُ الحصرَ، وإنما يُفيدُ الفضلَ والإخبارَ عن ثمرةِ إحصاءِ هذا العددِ تحديدًا.
|
أدلةُ عدمِ الحصرِ (أكثر من 99) |
الحديثُ نفسُهُ الذي يُستَدَلُّ به على التعارُضِ هو أقوى الأدلةِ على عدمِ الحصرِ:
◘ حديثُ الاستئثارِ (الدليلُ القاطعُ): قولُهُ صلى اللهُ عليه وسلمَ في الدعاءِ: «أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ»
هذا تصريحٌ نبويٌّ بأنَّ للهِ أسماءً اختصَّ بعلمِها فلم يُطلِعْ عليها أحدًا، وهذا ينفي الحصرَ نفيًا قاطعًا، كما بيَّنَ الخطابيُّ وابنُ القيِّمِ والشوكانيُّ.
◘ حديثُ عدمِ إحصاءِ الثناءِ: قولُهُ صلى اللهُ عليه وسلمَ: «...لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ»
إذا كان النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلمَ لا يُحصي ثناءَ اللهِ عليه، وصفاتُهُ يُعبَّرُ عنها بأسمائِهِ، فهذا دليلٌ على أنَّ أسماءَ اللهِ وكمالَهُ لا نهايةَ لهُ.
|
الردُّ على شبهةِ الحصرِ في "99" |
حديثُ «إِنَّ لِلهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا، مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ» يُفهَمُ كما اتَّفقَ عليهِ جمهورُ العلماءِ:
ليسَ المرادُ الحصرَ: اتفقَ العلماءُ على أنَّ هذا الحديثَ لا يَعني أنَّ أسماءَ اللهِ مقتصرةٌ على هذا العددِ.
المرادُ الإخبارُ بفضلِ هذا العددِ: المعنى أنَّ هذهِ التسعةَ والتسعينَ اسمًا بالذاتِ هي مجموعةٌ لها ثمرةٌ عظيمةٌ، وهيَ دخولُ الجنةِ لمن أحصاها.
المثالُ اللغويُّ: هو كقولِكَ: "إنَّ لزيدٍ ألفَ درهمٍ أعدَّها للصدقةِ"، وهذا لا ينفي أنَّ لديهِ دراهمَ أخرى لغيرِ الصدقةِ.
اللغةُ العربيةُ: قد يُستخدَمُ عددٌ معينٌ في لغةِ العربِ لِلدلالةِ على الكثرةِ التي يُصعَبُ حصرُها، كما وردَ في ذكرِ خلقِ اللهِ مائةَ رحمةٍ.
عدمُ تعيينِ الأسماءِ وضعفُ رواياتِ السردِ
لمْ يُبيِّنِ النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلمَ هذهِ التسعةَ والتسعينَ اسمًا بأعيانِها في حديثٍ صحيحٍ، وذلكَ لحِكَمٍ وغاياتٍ:
◘ حِكمةُ الإخفاءِ والاجتهادِ: أخفى اللهُ تعالى تعيينَ هذهِ الأسماءِ (كما أخفى ليلةَ القدرِ وساعةَ الإجابةِ في يومِ الجمعةِ) للحثِّ على الاجتهادِ في الدعاءِ والتعبُّدِ بكلِّ ما وردَ في القرآنِ والسنةِ من الأسماءِ الحسنى، لِتَحْصيلِ الفضلِ الموعودِ.
◘ بشريةُ النبيِّ وعدمُ علمِهِ بالغيبِ: لو كانَ النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلمَ يعلمُ جميعَ أسماءِ اللهِ المُستَأثَرِ بها لدلَّنا عليها، وعدمُ تحديدِهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ لأسماءٍ استأثرَ اللهُ بها دليلٌ على بشريتِهِ وصدقِهِ في تبليغِ الغيبِ.
◘ ضعفُ رواياتِ التعيينِ: إنَّ الرواياتِ التي جاءتْ بِسَرْدِ هذهِ الأسماءِ التسعةِ والتسعينَ (كروايةِ الترمذيِّ وابنِ ماجهَ) مُتَّفقٌ بينَ الحُفَّاظِ على ضعفِها، وعلتُها الأساسيةُ هيَ الإدراجُ أي: أنَّ سردَ الأسماءِ ليسَ من كلامِ النبيِّ صلى اللهُ عليه وسلمَ، بل هوَ اجتهادٌ مُدرَجٌ من قِبَلِ بعضِ الرواةِ أو العلماءِ، وهذا ما أيَّدَهُ ابنُ حجرٍ وابنُ حزمٍ وابنُ كثيرٍ.
معنى "أحصاها": ليسَ مجرَّدَ الحفظِ:
السؤالُ عن معنى كلمةِ "أَحْصَاهَا" يُجيبُ عن شقٍّ مهمٍّ من الشبهةِ، وهوَ هل يكفي مُجرَّدُ الحفظِ لدخولِ الجنةِ؟
إنَّ كلمةَ «أحصاها» لها معانٍ متعددةٌ، وقدْ بيَّنَ العلماءُ أنَّ الإحصاءَ المُرادَ هوَ الإحصاءُ الكاملُ الذي يجمعُ المراتبَ التاليةَ:
|
المرتبة |
المعنى المُتَضَمَّنُ |
التوضيحُ |
|
الإحصاءُ القوليُّ (الحفظُ) |
عدُّها واستيفاءُ ألفاظِها وحفظُها عن ظهرِ قلبٍ. |
وهوَ أوَّلُ المراتبِ |
|
الإحصاءُ العِلميُّ (الفهمُ) |
فَهْمُ معانيها ومدلولاتِها، والعقلُ بها، والإيمانُ بما تقتضيهِ. |
مُشتقٌ من "الحصاةِ" أي العقلِ |
|
الإحصاءُ العَمليُّ (التعبُّدُ) |
العملُ بِمُقتَضَاها والدعاءُ بها والتعبُّدُ للهِ تعالى بكلِّ اسمٍ. |
مثال: إذا قال "الرزاق" وثقَ بالرزقِ، وإذا قال "السميع البصير" راقبَ اللهَ في سرِّهِ وعلَنِه |
النتيجةُ:
مُجرَّدُ حفظِ الألفاظِ دونَ العملِ بمقتضى الأسماءِ لا يكفي لدخولِ الجنةِ، فالعملُ والطاعةُ هوَ المرادُ الأساسيُّ من الإحصاءِ، لِئَلاَّ يتَّكلَ الناسُ على الحفظِ دونَ العملِ، كما ذمَّ النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلمَ من يقرأُ القرآنَ لا يجاوزُ حناجرَهُ.
|
الخلاصةُ النهائيةُ |
لا تعارُضَ في الأحاديثِ:
أسماءُ اللهِ الحسنى ليست محصورةً بعددٍ، والإخبارُ بأنَّ "للهِ تسعةً وتسعينَ اسمًا" هو إخبارٌ عن مجموعةٍ خاصَّةٍ يترتَّبُ على إحصائِها دخولُ الجنةِ، وليسَ حصرًا لجميعِ أسمائِهِ.
الأسماءُ توقيفيةٌ:
يجبُ التقيُّدُ بما ثبتَ في القرآنِ والسنةِ دونَ زيادةٍ، وجميعُ رواياتِ تعيينِ التسعةِ والتسعينَ ضعيفةٌ ومُدرَجةٌ.
الإحصاءُ عملٌ وعقيدةٌ:
الإحصاءُ الذي يَدخُلُ بهِ العبدُ الجنةَ هوَ إحصاءٌ شاملٌ للحفظِ والفهمِ والعملِ بمقتضى كلِّ اسمٍ.