من القضايا التي يثيرها بعض أهل الأهواء والفرق الضالة زعمهم أن بعض الأنبياء كذبوا "لأجل الإصلاح"، ويستدلون على ذلك بقصة يوسف عليه السلام حين قال: ﴿ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ، وقصة إبراهيم عليه السلام حين قال لقومه: ﴿ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ، ليبرروا بها أصلهم المنحرف في "التقية" واعتبار الكذب وسيلة مشروعة لنصرة المذهب.
وهذا التأويل فاسد من وجوه كثيرة، لأنه يقوم على سوء فهم لمعاني النصوص، وتناقض مع عصمة الأنبياء الذين لا يمكن أن تصدر عنهم خيانة في القول أو كذب في التبليغ، فضلًا عن أن الله تعالى وصفهم بالصدق المطلق، فقال: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا . في هذا المقال نعرض الشبهة، ونبيّن الرد الصحيح عليها من أقوال العلماء الراسخين، ونتناول خطأ ربط “الكذب للإصلاح” بفعل الأنبياء، ونكشف زيف دعوى “التقية” التي جعلتها بعض الفرق الضالة وسيلة لنشر باطلها تحت ستار الدين.

الشبهة:

يزعم بعض المفسرين من الإمامية أن قول الله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ [يوسف: 70]، وقال تعالى: ﴿فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ [يوسف: 76] دليل على أن الكذب إذا كان في الإصلاح فهو جائز، بل أحبّه الله كما زعموا، وأن ذلك من جنس “التقية”، أي الكذب المباح.

الرد على الشبهة:

الأنبياء معصومون من الكذب، لأن الكذب صفة نقص، والله لا يصطفي لنبوّته من يتصف بها. وما ورد في القصتين لا يعد كذبًا، بل من باب المعاريض والمكر الحسن المشروع بإلهام من الله تعالى، لتحقيق مصلحة عليا دون إخلال بالصدق.

قال الامام ابن القيم:

وَقَدْ ذَكَرُوا فِي تَسْمِيَتِهِمْ سَارِقِينَ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْمَعَارِيضِ وَأَنَّ يُوسُفَ نَوَى بِذَلِكَ أَنَّهُمْ سَرَقُوهُ مِنْ أَبِيهِ حَيْثُ غَيَّبُوهُ عَنْهُ بِالْحِيلَةِ الَّتِي احْتَالُوا عَلَيْهِ، وَخَانُوهُ فِيهِ، وَالْخَائِنُ يُسَمَّى سَارِقًا، وَهُوَ مِنْ الْكَلَامِ الْمَرْمُوزِ، وَلِهَذَا يُسَمَّى خَوَنَةُ الدَّوَاوِينِ لُصُوصًا.

 الثَانِي: أَنَّ الْمُنَادِيَ هُوَ الَّذِي قَالَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَمْرِ يُوسُفَ "

 اعلام الموقعين - ابو عبد الله محمد بن ابي بكر بن قيم الجوزية – ج 3 ص 168، واغاثة اللهفان – ابو عبد الله محمد بن ابي بكر بن قيم الجوزية – ج 2 ص 111

قال الطبرسي:

"﴿كذلك كدنا ليوسف أي: مثل ذلك الكيد أمرنا يوسف ليكيد بما يتهيأ له أن يحبس أخاه، ليكون ذلك سببا لوصول خبره إلى أبيه، أي: ألهمنا يوسف هذا الكيد والحيلة، فجازيناهم على كيدهم بيوسف أي: كما فعلوا في الابتداء، فعلنا بهم.

وقيل: إن معنى كدنا صنعنا ليوسف، عن ابن عباس. وقيل: ألهمنا، عن الربيع. وقيل: دبرنا ليوسف بدلالة قوله ﴿وفوق كل ذي علم عليم على أنه سبحانه علم من صلاح هذا التدبير ما لم يعلمه غيره عن القتيبي"

تفسير مجمع البيان - الطبرسي - ج 5 ص 435 – 436

وقال الطباطبائي:

"قوله تعالى: ﴿كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك الا ان يشاء الله إلى آخر الآية الإشارة إلى ما جرى من الامر في طريق اخذ يوسف (ع) أخاه لأمه من عصبة اخوته وقد كان كيدا لأنه يوصل إلى ما يطلبه منهم من غير أن يعلموا ويتفطنوا به ولو علموا لما رضوا به ولا مكنوه منه وهذا هو الكيد غير أنه كان بإلهام من الله سبحانه أو وحي منه إليه علمه به طريق التوصل إلى اخذ أخيه ولذلك نسب الله سبحانه ذلك إلى نفسه مع توصيفه بالكيد فقال كذلك كدنا ليوسف. وليس كل كيد بمنفي عنه تعالى وانما تتنزه ساحة قدسه عن الكيد الذي هو ظلم ونظيره المكر والاضلال والاستدراج وغيرها "

تفسير الميزان - الطباطبائي - ج 11 ص 225

وقال الشيرازي:

"33 - لماذا اتهام الجميع بالسرقة؟ مر علينا في الآية الشريفة قوله تعالى: ﴿إنكم سارقون وهذه في الواقع تهمة موجهة إلى الجميع وهي تهمة كاذبة، فما المسوغ والمجوز الشرعي لمثل هذا الاتهام الباطل؟ يمكن الإجابة على هذا السؤال في عدة نقاط وهي: أولا: إن قائل هذه الجملة غير معلوم، حيث ورد في القرآن إنه (قالوا...) ولعل القائلين هم بعض الموظفين من عمال يوسف والمسؤولين عن حماية خزائن الحبوب، فهم حينما افتقدوا صواع الملك، اطمأنوا بأن السارق هو أحد أفراد القافلة القادمة من كنعان، فوجهوا الخطاب إليهم جميعا، وهذا من الأمور الطبيعية، فحينما يقوم شخص مجهول في ضمن مجموعة معينة بعمل ما، فإن الخطاب يوجه إليهم جميعا ويقال لهم: إنكم فعلتم هذا العمل، والمقصود إن أحد هذا المجموعة أو بعضها قد فعل كذا. ثانيا: الطرف الذي وجهت إليه التهمة وهو بنيامين، كان موافقا على توجيه هذه التهمة له، لأن التهمة كانت مقدمة للخطة المرسومة والتي كانت تنتهي ببقائه عند أخيه يوسف، وأما شمول الاتهام لجميع الاخوة ودخولهم جميعا في دائرة الظن بالسرقة، فإن كل ذلك كان إتهاما مؤقتا حيث زالت بمجرد التفتيش والعثور على الصواع وظهر المذنب الواقعي. قال بعض المفسرين: إنه قصد بالسرقة - فيما نسبوه إلى اخوة يوسف - هو ما اقترفوه سابقا من سرقة الاخوة يوسف من أبيه، لكن هذا التوجيه يتم إذا كانت التهمة قد وجهت إليهم من قبل يوسف، لأنه كان عالما بالذنب الذي ارتكبوه، ولعل ما ورد في ذيل الآية الشريفة يدل على ذلك، حيث قال العمال إننا: نفقد صواع الملك ومثل هذا الخطاب لا يتضمن توجيه السرقة إليهم، (ولكن الجواب الأول أصح ظاهرا)"

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ناصر مكارم الشيرازي - ج 7 - ص 270 – 271.

وقال محمد تقي المجلسي:

" وفي القوي كالصحيح، عن الحسن الصيقل قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام إنا روينا عن أبي جعفر عليه السلام في قول يوسف أيتها العير إنكم لسارقون فقال: والله ما سرقوا وما كذب، وقال إبراهيم: بل فعله كبيرهم هذا فسألوهم إن كانوا ينطقون فقال: والله ما فعلوا وما كذب قال فقال أبو عبد الله عليه السلام ما عندكم فيها يا صيقل؟ قال قلت: ما عندنا فيها إلا التسليم قال: فقال: إن الله أحب اثنين وأبغض اثنين، أحب الخطر فيما بين الصفين (أي التبختر) وأحب الكذب في الإصلاح وأبغض الخطر في الطرقات وأبغض الكذب في غير الإصلاح، أن إبراهيم قال: بل فعله كبيرهم هذا، إرادة الإصلاح ودلالة على أنهم لا يعقلون وقال يوسف إرادة الإصلاح "

روضة المتقين – محمد تقي المجلسي – ج 12 ص 7

لماذا ربط الكذب بالإصلاح ثم نسب فعل ابراهيم ويوسف عليهما السلام بإرادة الاصلاح؟

هل يجوز ان نسمي التقية بالكذب المباح؟

الخلاصة:

يوسف وإبراهيم عليهما السلام لم يكذبا البتة، وإنما استعملا المعاريض المشروعة أو الإلزام الجدلي، بإلهام من الله تعالى.

ما نسبه بعض المفسرين من الإمامية إلى “الكذب في الإصلاح” تأويل باطل يخالف عصمة الأنبياء.

لا يجوز شرعًا تسمية التقية بـ “الكذب المباح”، لأن الكذب المباح محصور في مواضع الإصلاح الخاصة، لا في العقائد ولا في إظهار الباطل.

📚 المصادر:

ابن القيمإعلام الموقعين (3/168)، إغاثة اللهفان (2/111).

تفسير الطبريجامع البيان.

ابن كثيرتفسير القرآن العظيم.

النوويشرح صحيح مسلم باب “الكذب للإصلاح”.

شيخ الإسلام ابن تيميةالرد على الرافضي.