من الشخصيّات القرآنيّة التي أثارت نقاشًا واسعًا بين العلماء شخصيةُ الخضر عليه السلام، الذي ورد ذكره في قصّة موسى عليه السلام في سورة الكهف.
وقد وقع الخلاف في شأنه:
هل هو نبيٌّ أُوحي إليه من ربّه؟ أم وليٌّ صالح من أولياء الله أكرمه الله بعلمٍ لدنّيٍّ خاصٍّ؟ ومع أنّ كثيرًا من المتصوّفة قد جنحوا إلى القول بأنّه وليٌّ، فإنّ التحقيق العلميّ في نصوص القرآن والسنّة، وكلام المفسّرين، يدلّ دلالة واضحة على نبوّة الخضر عليه السلام، وأنّ ما قام به من الأفعال الخارقة للعادة لم يكن عن اجتهادٍ شخصيٍّ، بل عن وحيٍ من الله تعالى.
وقد بيّن العلماء أنّ وصف الله تعالى له في قوله:
﴿فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا﴾ [الكهف: 65]
هو دليلٌ على أنّه نبيٌّ أوحي إليه، لأنّ العلم اللدنيّ لا يكون إلا بالوحي، والرحمة هنا رحمة النبوّة، كما رجّحه أكثر المفسّرين.
نصوص العلماء وأدلّتهم:
أقوال جمهور العلماء: ذهب إلى نبوّة الخضر عليه السلام عامةُ المفسّرين، ومنهم:
◘ ابن كثير (البداية والنهاية 1/328).
◘ النسفي والبغوي وابن الجوزي وابن حجر.
وقال القرطبي:
«هو نبيٌّ عند الجمهور، والآية تشهد بذلك، لأنّ النبي لا يتعلّم ممّن دونه، ولأنّ الحكم بالباطن لا يطّلع عليه إلا الأنبياء» (فتح الباري 6/434 و8/422).
وقال الشوكاني في فتح القدير (3/304) : «ذهب الجمهور إلى نبوّته».
فهؤلاء الأئمّة استدلّوا بأنّ أفعال الخضر - من خرق السفينة وقتل الغلام وبناء الجدار - لا تصحّ إلا بوحيٍ من الله تعالى، لأنّها أمورٌ لا يطّلع على حقيقتها إلا من أطلعه الله على الغيب.
تفسير الشيخ الشنقيطي رحمه الله:
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في تفسير قوله تعالى:
﴿فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا﴾ [الكهف: 65]:
«ولكنه يُفهَم من بعض الآيات أنّ هذه الرحمة المذكورة هنا رحمةُ نبوّةٍ، وأنّ هذا العلم اللدنيّ علمُ وحيٍ ... ومعلومٌ أنّ الرحمة وإيتاء العلم اللدنيّ أعمُّ من كون ذلك عن طريق النبوّة وغيرها، والاستدلال بالأعمّ على الأخصّ لا يصحّ، لأنّ وجود الأعمّ لا يستلزم وجود الأخصّ كما هو معروف.
ومن أظهر الأدلّة على أنّ الرحمة والعلم اللدنيّ اللذين امتنّ الله بهما على عبده الخضر كانا عن طريق النبوّة والوحي، قوله تعالى: ﴿وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي﴾ [الكهف: 82]، أي: إنما فعلته عن أمر الله جلّ وعلا، وأمر الله لا يتحقّق إلا بطريق الوحي، إذ لا طريق تُعرَف بها أوامر الله ونواهيه إلا الوحي من الله جلّ وعلا، ولا سيّما قتل الأنفس البريئة في ظاهر الأمر، وتعييب سفن الناس بخرقها؛ لأنّ العدوان على أنفس الناس وأموالهم لا يصحّ إلا عن طريق الوحي من الله تعالى.
وقد حصر تعالى طرق الإنذار في الوحي في قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ﴾ [الأنبياء: 45]، و(إنّما) صيغة حصر". (أضواء البيان 4/172–173)
مخالفة الصوفيّة ومن تبعهم:
وقد خالف في ذلك النووي والقشيري واليافعي وعامّة الصوفيّة، فقالوا: إنّ الخضر وليٌّ صالح، لا نبيّ، واحتجّوا بأنّ الله لم يصرّح في الآيات بلفظ "النبوّة".
لكنّ هذا الاستدلال مردود، لأنّ الله تعالى أثبت له العلم اللدنيّ والتصرّف في الأمور الغيبيّة بأمره، وهذا لا يكون إلا لنبيٍّ موحى إليه، كما دلّت عليه الآية: ﴿وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي﴾ [الكهف: 82].
الردّ على الشبهة:
القول بأنّ الخضر وليٌّ فقط قولٌ مخالفٌ لصريح القرآن الكريم؛ لأنّ الوليّ لا يُؤمَر بقتل نفسٍ أو خرق سفينة أو إقامة جدارٍ في قريةٍ بغير إذنٍ ظاهرٍ من الشرع، أما النبيّ فيجوز له ذلك إذا كان بوحيٍ من الله تعالى.
كما أن موسى عليه السلام، وهو نبيّ، تعلّم من الخضر، مما يدلّ على أنّ الخضر كان نبيًّا كذلك، إذ لا يمكن لنبيٍّ أن يتلقّى العلم الباطن من غير نبيٍّ.
قال القرطبي: «النبيّ لا يتعلّم ممّن دونه».
فدلّ هذا كلّه على أنّ الخضر عليه السلام نبيٌّ بوحيٍ من الله تعالى، وليس مجرد وليٍّ كما زعمت الفرق الصوفيّة الضالّة.
الخاتمة:
بعد دراسة النصوص القرآنية، وأقوال المفسّرين، وتفاسير العلماء المحقّقين، يتبيّن بوضوح أنّ الخضر عليه السلام نبيٌّ من أنبياء الله، أُوتي رحمة النبوّة وعلم الوحي.
أما ما ذهب إليه بعض المتصوّفة من أنّه وليٌّ فحسب، فقولٌ مردودٌ يخالف ظاهر القرآن ومقاصده، ويؤدي إلى الخلط بين مقام النبوّة والولاية، وهو من الانحرافات الفكرية التي انتشرت في بعض طرق القوم.
فالحقّ ما عليه جمهور العلماء والمفسّرين من القول بنبوّته عليه السلام، والله أعلم.
المصادر:
1) تفسير ابن كثير (البداية والنهاية 1/328).
2) تفسير القرطبي (فتح الباري 6/434 و8/422).
3) تفسير الشوكاني (فتح القدير 3/304).
4) أضواء البيان للشنقيطي (4/172–173).
5) أقوال النسفي، البغوي، ابن الجوزي، وابن حجر.