يُعَدّ حديث النبي ﷺ: «تُرْبَةُ أَرْضِنَا، بِرِيقَةِ بَعْضِنَا، لِيُشْفَى بِهِ سَقِيمُنَا، بِإِذْنِ رَبِّنَا» من الأحاديث العظيمة التي جمعت بين الدواء الحسيّ والرقية الشرعية، وجاءت لتدل على أن الإسلام لا يُغفل الأسباب المادية في طلب الشفاء، كما لا يُهمل التوكل القلبي والتعلق بالله وحده.
ومع أن هذا الحديث ورد في أصح كتب السنة، إلا أن بعض الفرق -كمن يتبع التأويلات البعيدة عن منهج أهل العلم - حاولت صرف معناه عن وجهه الصحيح لتأصيل أفكار أو بدع لا علاقة لها بالسنة النبوية، فأوّلوه بما لا يحتمله اللفظ ولا يشهد له الشرع ولا اللغة.
ولذلك كان من الواجب بيان المعنى الصحيح لهذا الحديث الشريف كما شرحه الأئمة الثقات كالإمام النووي والحافظ ابن القيم رحمهما الله، وبيان الحكمة النبوية في الجمع بين الرقية بالكلمة والعلاج بالطبيعة، ليبقى المسلم على بصيرة في فهم سنة نبيه ﷺ، بعيدًا عن التأويلات التي تفسد المعنى وتخرج النص عن مقصوده.

فقد جاءت السنة النبوية الشريفة زاخرة بالأحاديث التي تبين أصول الطب النبوي، ذلك العلم الذي يجمع بين الدواء الحسي والمعنى الإيماني، ويؤكد أن الشفاء الحقيقي بيد الله وحده، كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ (الشعراء: 80).

ومن أعجب ما ورد في هذا الباب حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

«تُرْبَةُ أَرْضِنَا بِرِيقَةِ بَعْضِنَا لِيُشْفَى بِهِ سَقِيمُنَا بِإِذْنِ رَبِّنَا».

حديث يجمع بين الجانب الروحي والتجريبي، وفيه سرّ من أسرار الشفاء الذي يجمع بين التوكل والأخذ بالأسباب. وقد شرح العلماء معناه شرحًا دقيقًا، وأوضحوا حكمته الطبية والإيمانية، فكان من روائع ما جمع بين علم الدين وطب الأبدان.

نص المقال:

روى الإمام مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا اشتكى الإنسان أو كانت به قرحة أو جرح قال بأصبعه هكذا – ووضع سفيان سبابته بالأرض ثم رفعها – وقال:

«تُرْبَةُ أَرْضِنَا، بِرِيقَةِ بَعْضِنَا، لِيُشْفَى بِهِ سَقِيمُنَا، بِإِذْنِ رَبِّنَا» 

خلاصة حكم المحدث: أخرجه في صحيحه.

الراوي: عائشة أم المؤمنين المحدث: ابن حبان | المصدر: صحيح ابن حبان الصفحة أو الرقم: 2973 التخريج: أخرجه البخاري (5745)، وابن ماجه (3521)، وابن أبي شيبة (29492) واللفظ لهم جميعا.

وقد فصّل العلماء في معنى هذا الحديث، ومن أجمل ما قيل فيه ما أورده الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم في باب استحباب الرقية من العين والنملة

(ج14 ص184 ط دار إحياء التراث العربي):

«قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ بِأَرْضِنَا هُنَا جُمْلَةُ الْأَرْضِ، وَقِيلَ: أَرْضُ الْمَدِينَةِ خَاصَّةً لِبَرَكَتِهَا، وَالرِّيقَةُ أَقَلُّ مِنَ الرِّيقِ، وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ رِيقِ نَفْسِهِ عَلَى أُصْبُعِهِ السَّبَّابَةِ، ثُمَّ يَضَعُهَا عَلَى التُّرَابِ، فَيَعْلَقُ بِهَا مِنْهُ شَيْءٌ، فَيَمْسَحُ بِهِ عَلَى الْمَوْضِعِ الْجَرِيحِ أَوِ الْعَلِيلِ، وَيَقُولُ هَذَا الْكَلَامَ فِي حَالِ الْمَسْحِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ».

وبيّن النووي أن المقصود من الحديث الجمع بين الرقية الشرعية والدواء الطبيعي، إذ يستعمل المصاب شيئًا من ريقه مع تراب الأرض، ثم يمسح على موضع الألم قائلاً الذكر النبوي، مستشفيًا ببركة اسم الله تعالى.

أما الحافظ ابن القيم رحمه الله فشرح الحديث شرحًا عجيبًا في عون المعبود وحاشية ابن القيم – باب في الرقى (ج10 ص265 ط دار الكتب العلمية)، فقال:

«هَذَا مِنَ الْعِلَاجِ السَّهْلِ الْمُيَسَّرِ النَّافِعِ الْمُرَكَّبِ، وَهِيَ مُعَالَجَةٌ لَطِيفَةٌ يُعَالَجُ بِهَا الْقُرُوحُ وَالْجِرَاحَاتُ الطَّرِيَّةُ، لَا سِيَّمَا عِنْدَ عَدَمِ غَيْرِهَا مِنَ الْأَدْوِيَةِ، إِذْ كَانَتْ مَوْجُودَةً بِكُلِّ أَرْضٍ».

ثم فصّل ابن القيم في حكمة استعمال التراب، فقال:

«قَدْ عُلِمَ أَنَّ طَبِيعَةَ التُّرَابِ الْخَالِصِ بَارِدَةٌ يَابِسَةٌ مُجَفِّفَةٌ لِرُطُوبَاتِ الْجُرُوحِ، وَالْجِرَاحَاتِ الَّتِي تَمْنَعُ الطَّبِيعَةُ مِنْ جَوْدَةِ فِعْلِهَا وَسُرْعَةِ انْدِمَالِهَا، لَا سِيَّمَا فِي الْبِلَادِ الْحَارَّةِ، وَأَصْحَابِ الْأَمْزِجَةِ الْحَارَّةِ».

وبيّن رحمه الله أن التراب ببرودته وجفافه الطبيعي يعادل حرارة الالتهاب، فيساعد على التئام الجروح ويجفف الرطوبة الرديئة، وهو أثر طبيعي معروف. ثم قال:

«وَيَحْصُلُ بِهِ مَعَ ذَلِكَ تَعْدِيلُ مِزَاجِ الْعُضْوِ الْعَلِيلِ، وَمَتَى اعْتَدَلَ مِزَاجُ الْعُضْوِ قَوِيَتْ قُوَاهُ الْمُدَبِّرَةُ، وَدَفَعَتْ عَنْهُ الْأَلَمَ بِإِذْنِ اللَّهِ».

ثم فسر الحديث عمليًّا فقال:

«أَنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ رِيقِ نَفْسِهِ عَلَى أُصْبُعِهِ السَّبَّابَةِ، ثُمَّ يَضَعُهَا عَلَى التُّرَابِ، فَيَعْلَقُ بِهَا مِنْهُ شَيْءٌ، فَيَمْسَحُ بِهِ عَلَى الْجُرْحِ وَيَقُولُ هَذَا الْكَلَامَ، لِمَا فِيهِ مِنْ بَرَكَةِ ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، فَيَنْضَمُّ أَحَدُ الْعِلَاجَيْنِ إِلَى الْآخَرِ فَيَقْوَى التَّأْثِيرُ».

فبيّن ابن القيم أن العلاج هنا يجمع بين دواء الحس ودواء الروح، وأن أثره يتحقق بإذن الله متى استُعمل بيقين وصدق نية، لا على سبيل التجربة المادية فحسب.

النتيجة:

حديث «تربة أرضنا بريقة بعضنا ليشفى به سقيمنا بإذن ربنا» ليس مجرد وصفة طبية بديلة، بل هو مبدأ متكامل من مبادئ الطب النبوي، يجمع بين الأسباب المادية والروحية، بين الذكر والدعاء والتداوي، وهو برهان على أن السنة النبوية لم تهمل صحة الجسد كما لم تهمل صفاء الروح.

وفيه دعوة للمسلم أن يتوكل على الله مع الأخذ بالأسباب، وأن يعلم أن في الكون أسرارًا من الشفاء لم تكتشفها العلوم الحديثة كلها، لأن الله تعالى قال: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾ (الإسراء: 82).

المصادر:

شرح صحيح مسلم الإمام النووي – باب استحباب الرقية من العين والنملة – ج14 ص184 – دار إحياء التراث العربي.

عون المعبود وحاشية ابن القيم باب في الرقى – ج10 ص265 – دار الكتب العلمية.

صحيح مسلم كتاب السلام – حديث عائشة رضي الله عنها في الرقية بالتراب والريق.