من أكثر القضايا التي يُثيرها بعض الباحثين المعاصرين وأصحاب المذاهب المخالفة لأهل السنة ما يتعلق بموقف الإمام عليٍّ بن أبي طالب رضي الله عنه من بيعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن أشهر ما يستدلون به رواية جاء فيها: «فلم يبايعه علي حتى ماتت فاطمة ولا أحد من بني هاشم».

وقد جعلها بعضهم دليلاً على امتناع عليٍّ رضي الله عنه عن البيعة، وأن ذلك كان رفضًا لخلافة أبي بكر رضي الله عنه، وهو استدلال خاطئ لا يصح سندًا ولا معنى.

يهدف هذا المقال إلى تفنيد هذه الشبهة، وبيان حقيقة الرواية من جهة السند، مع عرض أقوال أئمة الحديث في تصحيح الروايات الثابتة التي تبين مبايعة عليٍّ رضي الله عنه، موضحين وجه الجمع بين الأخبار المتعارضة.

نص الرواية

قال معمر قلت للزهري: كم مكثت فاطمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم قال ستة أشهر فقال رجل للزهري فلم يبايعه علي رضي الله عنه حتى ماتت فاطمة رضي الله عنها قال ولا أحد من بني هاشم.

رواه البيهقي عن الزهري من غير إسناد وقال «منقطع» وهذا معناه أن الزهري لم يسند هذا القول كما نص عليه الحافظ في الفتح (7/495). ورجح عليه الرواية الموصولة من طريق أبي سعيد أن عليا بايع أبا بكر بيعة ثانية مؤكدة للبيعة الأولى لإزالة ما كان وقع بسبب الميراث.

قال البيهقي: «رواه البخاري في الصحيح من وجهين عن معمر ورواه مسلم عن إسحاق بن راهويه وغيره عن عبد الرزاق وقول الزهري في قعود علي عن بيعة أبي بكر رضي الله عنه حتى توفيت فاطمة رضي الله عنها منقطع وحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في مبايعته إياه حين بويع بيعة العامة بعد السقيفة أصح ولعل الزهري أراد قعوده عنها بعد البيعة ثم نهوضه إليها ثانيا وقيامه بواجباتها والله أعلم» (السنن الكبرى6/300).

قال البيهقي بعد رواية هذا الحديث: «سمعت محمد بن إسحاق بن خزيمة يقول جاءني مسلم بن الحجاج فسألني عن هذا الحديث فكتبته له في رقعة وقرأت عليه فقال هذا حديث يسوي بدنة فقلت يسوي بدنة بل هو يسوي بدرة». فانظر كيف أثنى مسلم صاحب الصحيح على الرواية.

وهذه الرواية مبطلة للرواية الأخرى الضعيفة وفيها «فلم يبايعه علي حتى ماتت فاطمة ولا أحد من بني هاشم».

ووجدت الرواية عند مسند أبي عوانة 4/ 251) ومصنف عبد الرزاق 5/472 وتاريخ الطبري2/236 من طريق: عبد الرزاق بن همام:

قال البخاري: «يهم في بعض ما يحدث به» (ترتيب علل الترمذي المبير ورقة 37). وحكى العجلي أنه ثقة لكنه كان يتشيع (الثقات 847).

وقد جاءت الرواية من طريق الدبري عن عبد الرزاق وهو إسحاق بن إبراهيم الدبري.

قال الذهبي «روى عن عبد الرزاق أحاديث منكرة» بل وصفه بالرفض وقلة الحياء (ميزان الاعتدال2/273).

وقد استنكر ابن الصلاح أحاديث رواها الدبري عن عبد الرزاق بن همام وأحال سبب نكارتها إلى الدبري لوجود التردد في سماعه من عبد الرزاق (ميزان الاعتدال 4/345).

وهذه الرواية مردودة بما رواه الحاكم والبيهقي بإسناد صحيح جدا عن أبي سعيد الخدري.

جاء عند الحاكم في المستدرك:

حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا جعفر بن محمد بن شاكر ثنا عفان بن مسلم ثنا وهيب ثنا داود بن أبي هند ثنا أبو نضرة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال ثم لما توفي رسول الله، قام خطباء الأنصار فجعل الرجل منهم يقول يا معشر المهاجرين إن رسول الله، كان إذا استعمل رجلا منكم قرن معه رجلا منا فنرى أن يلي هذا الأمر رجلان أحدهما منكم والآخر منا قال فتتابعت خطباء الأنصار على ذلك فقام زيد بن ثابت فقال إن رسول الله، كان من المهاجرين وإن الإمام يكون من المهاجرين ونحن أنصاره كما كنا أنصار رسول الله، فقام أبو بكر رضي الله عنه فقال جزاكم الله خيرا يا معشر الأنصار وثبت قائلكم ثم قال أما لو ذلك لما صالحناكم ثم أخذ زيد بن ثابت بيد أبي بكر فقال هذا صاحبكم فبايعوه ثم انطلقوا فلما قعد أبو بكر على المنبر نظر في وجوه القوم فلم ير عليا فسأل عنه فقال ناس من الأنصار فأتوا به فقال أبو بكر: ابن عم رسول الله، وختنه أردت أن تشق عصا المسلمين فقال لا تثريب يا خليفة رسول الله، فبايعه ثم لم ير الزبير بن العوام فسأل عنه حتى جاؤوا به فقال: ابن عمة رسول الله، وحواريه أردت أن تشق عصا المسلمين فقال مثل قوله لا تثريب يا خليفة رسول الله، فبايعاه هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه» (سنن البيهقي8/143 المستدرك3/80).

سمعت محمد بن إسحاق بن خزيمة يقول جاءني مسلم بن الحجاج فسألني عن هذا الحديث فكتبته له في رقعة وقرأت عليه فقال هذا حديث يسوي بدنة فقلت يسوي بدنة بل هو يسوي بدرة» (سنن البيهقي8/143 تاريخ دمشق30/278).

والبدرة هي التي تبدر بالنظر ويقال هي التامة كالبدر، ويقال ما كان يعد من منحة كيس فيه عشرة آلف (لسان العرب).

ورواه عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة (2/554 ح رقم1292) ورواه الحافظ ابن كثير وقال «وهذا إسناد صحيح محفوظ وفيه فائدة جليلة وهي مبايعة علي بن أبي طالب: إما في أول يوم أو في اليوم الثاني من الوفاة. وهذا حق فإن علي بن أبي طالب لم يفارق الصديق في وقت من الأوقات، ولم ينقطع في صلاة من الصلوات خلفه» البداية والنهاية (5/248). ورواه ابن عساكر (تاريخ دمشق30/278).

ملاحظة:

السؤال:

وقد يسأل سائل ماذا عن قول عائشة فيما رواه البخاري أن عليا لم يكن بايع من قبل؟

الجواب:

أن عائشة رضي الله عنها روت ما انتهى إليه علمها.

والقاعدة العلمية تنص على أن المثبت الصدوق مقدم على النافي الصدوق وكلاهما صادق.

والحافظ ابن حجر علق على رواية (فلم يبايعه علي حتى ماتت فاطمة ولا أحد من بني هاشم)

رواه البيهقي في (السنن الكبرى6/300) عن الزهري من غير إسناد وقال « منقطع» وهذا معناه أن الزهري لم يسند هذا القول كما نص عليه الحافظ في الفتح (7/495). ورجح عليه الرواية الموصولة من طريق أبي سعيد أن عليا بايع أبا بكر بيعة ثانية مؤكدة للبيعة الأولى لإزالة ما كان وقع بسبب الميراث.

فماذا نفعل في هاتين الروايتين المتعارضتين؟

 عائشة تنفي وهي الصديقة أم المؤمنين بنت الصديق. وأبو سعيد صحابي عدل لا يكذب. وقد صحت الرواية إليه. فالتوفيق ما قدمنا وهو أن المثبت الصدوق مقدم على النافي الصدوق. لأن المثبت معه زيادة علم. وغاية ما عند النافي هو ما تناهى إليه علمه. إذن فرواية أبي سعيد تثبت علما لم يتناه إلى عائشة رضي الله عنها.

وقد وقع مثل هذا لعائشة رضي الله عنها. فإنها نفت أن يكون الرسول " بال قائما.

حتى قالت: من حدثك أن رسول الله بال قائما فاتهمه على الكذب. مع أن مسلما قد روى عن حذيفة أنه كان مع الرسول " فرآه يبول قائما.

وكذلك روى الفضل بن عباس أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يصل فى الكعبة. بينما قال بلال: قد صلى.

قال البخاري «فأخذ بقول بلال وترك قول الفضل» (البخاري رقم1483).

إن اشتغال علي بفاطمة وانقطاعه عن الناس هو الذي جعل كثيرين يظنون أنه لم يبايع أصلا ولهذا قرر أن يبايع بيعة أخرى مؤكدة للبيعة الأولى كما صرح الحافظ وأسند لذلك رواية موصولة عن الزهري قدمها على تلك الرواية منقطعة الاسناد التي تقول بأن عليا لم يبايع أبا بكر حتى ماتت فاطمة.

وكان الناس يبايعون الرسول بيعة ثانية غير الأولى: روى البخاري عن سملة بن الاكوع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «ألا تبايع».

فقال: قد بايعت يا رسول الله. قال «وأيضا فبايعته الثانية» (البخاري2960).

الخلاصة:

1)  الرواية التي تقول: «فلم يبايعه علي حتى ماتت فاطمة ولا أحد من بني هاشم» منقطعة وضعيفة.

2)  الروايات الصحيحة في المستدرك والسنن الكبرى والبداية والنهاية تؤكد مبايعة عليٍّ لأبي بكر رضي الله عنه.

3)  تأخره إن صحّ كان لأسباب إنسانية لا سياسية.

4)  قاعدة المثبت مقدم على النافي تفسر اختلاف الروايات.

5)  لم يعرف عن عليٍّ رضي الله عنه أنه خالف أبا بكر في أمرٍ قط، بل كان من أعظم أنصاره.