قال صاحب المذكرة:
ومعناها: أن ذاته تعالى ليست مركبة من جزأين ولا أكثر، وأنها لا مثل لها، وأن صفاته لا مثل لها، فليس لموصوف حياة كحياته تعالى، ولا علم كعلمه تعالى، ولا إرادة كإرادته تعالى، ولا قدرة كقدرته تعالى، ولا سمع كسمعه تعالى، ولا بصر كبصره تعالى، ولا كلام ككلامه تعالى.
ولو أن المصنف اطّرد عند قوله: وأن صفاته لا مثل لها، فليس لموصوف حياة كحياته تعالى، ولا علم كعلمه تعالى، ولا إرادة كإرادته تعالى، ولا قدرة كقدرته تعالى، ولا سمع كسمعه تعالى، ولا بصر كبصره تعالى، ولا كلام ككلامه تعالى، فيجري على نفس المنوال في جميع صفات الله عز وجل فيقول: ولا يد كيده تعالى، ولا وجه كوجهه تعالى، ولا مجيء كمجيئه تعالى، ولا نزول كنزوله تعالى، ولا استواء كاستوائه تعالى، لكان موافقا لرسوله مخالفا للفلاسفة.
لكنه لا يعدل عن الألفاظ البدعية المجملة، فإنَّا إن رجعنا إلى كتاب الله عز وجل وإلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم نجد أنه ما من صفة نقص إلا ونفاها الشارع عن الله عز وجل إما بصريح اللفظ كـ "لا تأخذه سنة ولا نوم" ومثلها كثير، أو بطريق اللزوم بإثبات نقيضها كـ "وهو السميع العليم"، وغير ذلك، لكنا لا نجد في أي نص نفيا لما نفاه هذا المصنف وأهل الكلام عموما، لا بصريح اللفظ ولا من إثبات نقيضه، ثم يطالبون الناس باعتقاد ما نفوه وأنه من أصول الدين، وليت شعري كيف يكون ما هو من أصول الدين لم يأت به صاحب الدين؟ !
ومن ذلك استعمال لفظ التركيب، مع أن التركيب له عدة استعمالات:
أحدها. التركيب من متباينين فأكثر. ويسمى: تركيب مزج، كتركيب الحيوان من الطبائع الأربع والأعضاء ونحو ذلك، وهذا المعنى منفي عن الله عز وجل، ولا يلزم من وصف الله تعالى بالعلو ونحوه من صفات الكمال، أن يكون مركبا بهذا المعنى المذكور.
والثاني: تركيب الجوار، كمصراعي الباب ونحو ذلك، ولا يلزم أيضا من ثبوت صفاته تعالى إثبات هذا التركيب.
الثالث: التركيب من الأجزاء المتماثلة، وتسمى: الجواهر المفردة. فأهل الكلام قالوا: إن الجسم يكون مركبا من الجواهر المفردة، ولهم كلام في ذلك يطول، ولا فائدة فيه، ومن اختلافهم: هل يمكن التركيب من جزءين، أو من أربعة، أو ستة، أو ثمانية، أو ستة عشر؟ وليس هذا التركيب لازما لثبوت صفاته تعالى وعلوه على خلقه. والحق أن الجسم غير مركب من هذه الأشياء، وإنما قولهم مجرد دعوى، وهذا مبسوط في موضعه.
الرابع: التركيب من الهيولى والصورة، كالخاتم مثلا، هيولاه: الفضة، وصورته معروفة.
الخامس: التركيب من الذات والصفات، هم سموه تركيبا لينفوا به صفات الرب تعالى، وهذا اصطلاح منهم لا يعرف في اللغة، ولا في استعمال الشارع، فلسنا نوافقهم على هذه التسمية ولا كرامة. ولئن سموا إثبات الصفات تركيبا؛ فنقول لهم: العبرة للمعاني لا للألفاظ، سموه ما شئتم، ولا يترتب على التسمية بدون المعنى حكم! فلو اصطلح على تسمية اللبن خمرا، لم يحرم بهذه التسمية.
السادس: التركيب من الماهية ووجودها، وهذا يفرضه الذهن أنهما غيران، وأما في الخارج، هل يمكن ذات مجردة عن وجودها، ووجودها مجرد عنها؟ هذا محال. فترى أهل الكلام يقولون: هل ذات الرب وجوده أم غير وجوده؟ ولهم في ذلك خبط كثير. وأمثلهم طريقة رأي الوقف والشك في ذلك.
وكم يزول بالاستفسار والتفصيل كثير من الأضاليل والأباطيل.
وسبب الإضلال الإعراض عن تدبر كلام الله وكلام رسوله، والاشتغال بكلام اليونان والآراء المختلفة، وإنما سمي هؤلاء: أهل الكلام، لأنهم لم يفيدوا علما لم يكن معروفا، وإنما أتوا بزيادة كلام قد لا يفيد، وهو ما يضربونه من القياس لإيضاح ما علم بالحس، وإن كان هذا القياس وأمثاله ينتفع به في موضع آخر، ومع من ينكر الحس، وكل من قال برأيه وذوقه وسياسته مع وجود النص، أو عارض النص بالمعقول، فقد ضاهى إبليس، حيث لم يسلم لأمر ربه، بل قال: {أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين}([1])
فالمصنف والأشاعرة يزعمون أن وصف الله عز وجل بصفاته التي وصف به نفسه هو وصف له بالتركيب والتركيب من خواص الأجسام، فلزم على المكلفين تنزيه الله عز وجل عما وصف به نفسه.
قلنا: إن قولهم: الذات مع صفاتها تركيب، والتركيب من خواص الأجسام وأن الأجسام هي المركبة من أكثر من جزء - مع أن هذا لا دليل لهم عليه -، فإنَّا نُلزمهم بأن صفات المعنى السبعة التي أثبتوها دليل على أن الإله عندهم مركب من الذات والصفات، فإن لم يلتزموه في السبع وجب عليهم عدم التزامه في غيرها، لأن الكلام في الصفات من جنس واحد، فإن قالوا: نحن نقول: إن تلك الصفات هي عين الذات، فعلم الله هو الله، وسمعه هو نفسه، سألناهم عن معنى قوله تعالى: (وهو معكم أينما كنتم)، فإن قالوا: هو معنا بعلمه، وعلم الله هو ذات الله، أي هو معنا بذاته، وهذا قول أهل الاتحاد والحلول، وهو قول كفري، وإن قالوا: علمه ليس هو ذاته فقد قالوا بالتركيب حسب اصطلاحهم، فكان مركبا من الذات وصفة العلم، وهم يُقرون بأن الصفات السبع زائدة عن الذات، بمعنى أن واجب الوجود مركب من ذاته وتلك الصفات الزائدة عن ذاته حسب اصطلاحهم البدعي.
وقول صاحب المذكرة: "ذات الله ليست مركبة من جزأين ولا أكثر" أراد بهذا أن يخرج من الخلاف الدائر بين العائلة الفلسفية، وهو: هل الأجسام مركبة من جزأين أو من أربعة أو من ثمانية أو من ستة عشر، فأراد الخروج من هذا محاولا الجمع بين كل تلك الأقوال، وهو على كل حال شامل لهم، فإنَّا لا نعقل شيئا زائدا عن الذات إلا وكان جزءا، فذات الإله عندهم مركبة من أجزاء (الذات-السمع-البصر-الكلام-العلم-القدرة-الإرادة-الحياة)، فكلها على حدة جزء، وهو عز وجل عندهم مركب من كل تلك الأجزاء، فالمصنف على هذا ينسب الأشاعرة إلى التجسيم، والتجسيم مناف للتوحيد، فهم أثبتوا جوهرا مطلقا -حسب كلام الفلاسفة أرباب الأشاعرة- ثم هذا الجوهر فيه صفات زائدة عليه، وهذا من صفات المخلوق، فالمخلوق هو الجوهر المتصف بالأعراض.
ونحن لا نسلم لهم بهذه البدع الفلسفية، ولا نُثبت حتى هذا الجوهر الفرد الذي لا يتجزأ كما يقولون، خصوصا أن العلم في زماننا قد قام بنقض نظريتهم ونحَّى برهانهم الوحيد في إثبات وجود الخالق، وذلك بانفجار الذرة إلى طاقة، وضاع أصل توحيد الأشاعرة بقنبلة نووية، وزال برهانهم مع زوال هيروشيما وناكازاكي، ثم هذا الجوهر الفرد نقَضَه من ابتدعه، وهم: الفلاسفة أنفسهم، وذلك في معرض إثباتهم للصورة والهيولي، كما رفض نظرية تركيب الأجسام من الجواهر الفردة معظم الفلاسفة والفرق الكلامية ناهيك عن سلفنا الصالح، فإنا نجزم وبالأيمان المغلظة أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ماتوا ولا يعرفون الجواهر الفردة ولا الأعراض، وهؤلاء المتكلمون يزعمون أن الجوهر الفرد مجرد من كل الأعراض، وهذا لا وجود له إلا في أذهانهم، أما في الواقع فهو ممتنع الوجود، فبنوا أصلهم على أمرين خياليين، كون الجوهر الفرد لا يتجزأ، وكذَّبهم العلم، وكونه مجردا عن الأعراض وهذا في مخييلاتهم، وزيادة على كل ذلك فإنه لم يُمكنهم ولا يمكنهم ولن يُمكنهم أن يبرهنوا على نظريتهم الفاسدة من إثبات جوهر الفرد وكونه لا صفة له، فترى أنهم عطلوا صفات الله وقالوا بأمور كفرية بناء على نظرية لم يُبرهنوا عليها لزمننا هذا، بل بُرهن على نقضها، ثم لم ينجوا من تبعاتها فشملهم طوفان التجسيم الذي رموا به المرسلين وأصحابهم والسلف الصالح.
علما أن تسميتهم لما كان فيه صفاته بالمركب، خالفوا فيه العرب والعجم ومنطق الطير، فإنه لا يُعرف عند العرب تسمية ذات بأوصافها بالمركب، ولا وصف صفات الذات بالأجزاء لها، فلا يُقال في زيد إنه مركب من طول ولون ورائحة وعلم وسمع وبصر، وهذا سأبينه إن شاء الله في ختام هذه الفقرة.
([1]) شرح الطحاوية لابن أبي العز الحنفي