نظرتهم الدقيقة للذنوب: خشية تملأ القلوب

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّد المرسلين محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين إنّ الحديث عن نظرة الصحابة رضي الله عنهم إلى الذنوب الصغيرة هو حديث عن القلوب الحيّة، والخشية العميقة، والورع الدقيق الذي تربّوا عليه في مدرسة النبوّة. فقد كان الصحابةُ يرون ما يُستَهان به اليوم من الذنوب من الموبقات المهلكات، وكانوا يخشون على أنفسهم من صغائر الذنوب كما يخشى الناس اليوم الكبائر.

هذه النظرة المرهفة تُظهر لنا عظمة مراقبتهم لله تعالى، وأنّ الخوف من الذنب لديهم لم يكن خوفًا من العقوبة فقط، بل خوفًا من سقوط المنزلة عند الله جلّ وعلا، وخوفًا من أن يحجبهم الله عن رحمته بسبب ذنبٍ وإن كان صغيرًا في أعين الناس.

نصوص الصحابة في التحذير من الصغائر

روى الإمام أحمد في "المسند" عن حميد بن هلال قال:

قال عبادة بن قرط: "إنكم لتأتون أمورًا هي أدقُّ في أعينكم من الشعر، كنا نعدها على عهد رسول الله ﷺ من الموبقات".
قال: فذُكر ذلك لـ محمد بن سيرين فقال: "صدق، وأرى جرَّ الإزار منها" [رواه أحمد، رقم الحديث 15859، وقال محققو المسند: هذا الأثر صحيح].

وكذلك روى البخاري وأحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:

"إنكم لتعملون أعمالًا، هي أدق في أعينكم من الشعر، إن كنا لنعدها على عهد النبي ﷺ من الموبقات".

والمُوبِقات: هي المهلكات، أي الذنوب الكبيرة.

وقوله: "أدق في أعينكم" كناية عن استهانتهم بها واحتقارهم لقدرها، أي أنّ الناس من بعدهم يرونها شيئًا يسيرًا لا يُعبأ به، بينما كان الصحابة يعدّونها من الكبائر المهلكة.

فهم العلماء لهذه الآثار

قال الإمام ابن الملقن رحمه الله (ت 804 هـ):

"إنما كانوا يعدّون الصغائر من الموبقات؛ لشدة خشيتهم لله، وإنه لم يكن لهم كبائر"
[التوضيح لشرح الجامع الصحيح، ج29 ص547].

وقال الإمام ابن علّان الشافعي (ت 1057 هـ):

"وفي الحديث كمالُ مراقبةِ القوم تعالى، وكمالُ استحيائهم منه، حتى إنهم يرون تلك الأمور التي استهون غيرهم الوقوع فيها مهلكات لهم؛ لعظم شهودهم جلال الله تعالى وعظمته"
[دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين، ج1 ص239].

فكان خوفهم من الذنب نابعًا من شدة يقينهم بالله، ومراقبتهم له في السرّ والعلن، وشهودهم لعظمة الجلال الإلهي التي جعلت كل معصية عندهم عظيمة.

الفرق بين نظرة الصحابة ونظرة الناس اليوم

لقد تبدّلت المقاييس في النفوس، وصار كثير من الناس يستسهل الذنب الصغير ويقول: "هي صغيرة"، أو "الله غفور رحيم"، ناسيًا أن الإصرار على الصغيرة قد يجعلها كبيرة، وأنّ الاستهانة بالذنب أعظم من الذنب نفسه.

قال بعض السلف:

 "لا تنظر إلى صِغَر الذنب، ولكن انظر إلى عِظَم من عصيت".

والصحابةُ رضي الله عنهم كانوا يدركون هذه الحقيقة، فلم تكن الصغائر عندهم إلا بابًا إلى التوبة والرجوع، لا بابًا للاستهانة والتسويف.

قال الله تعالى: ﴿وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴾ [النور: 15].

هذه الآية نزلت فيمن استهانوا بخوضهم في عرض أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وهي وإن نزلت في حادثة معينة، إلا أن معناها عام في كل ذنبٍ يُستصغر. فالذنب قد يراه الإنسان هيّنًا، لكن عند الله عظيم لأنّه اعتداءٌ على حرماته.

نظرتهم إلى الصغائر من خلال حياتهم

كان الصحابة يخافون من المعصية ولو كانت همسةً في القلب. فقد قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:

"إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، والمنافق يرى ذنوبه كذبابٍ مرّ على أنفه فقال به هكذا" [رواه البخاري].

فهذه الصورة البليغة تعبّر عن حياة القلب الحيّ الذي يرى المعصية خطرًا داهمًا مهما صغرت، بينما القلب الميت لا يشعر بثقل الذنب.

وقال أنس بن مالك رضي الله عنه أيضًا:

"إنكم لتعملون أعمالًا هي أدق في أعينكم من الشعر، إن كنا لنعدها من الموبقات" — وكأنّه يصف واقعًا مشابهًا لما نعيشه اليوم.

كانوا يتّقون الله في كل صغيرة وكبيرة، ويحسبون لأنفاسهم حسابًا، لأنهم عرفوا أن الذنب الصغير قد يكون سببًا للحرمان من الطاعة أو لزوال النعمة.

الخشية أعظم من العمل

قال رسول الله ﷺ لبعض الصحابة الذين ظنوا أنّهم يستطيعون أن يبالغوا في العبادة أكثر منه ﷺ:

"أما واللهِ إني لأخشاكم لله وأتقاكم له" [متفق عليه].

فهو ﷺ مع عظيم منزلته ورفعة مقامه كان أشدّ الناس خوفًا من الله، وأكثرهم اتقاءً للذنوب، وهذا دليل على أنّ كمال الإيمان هو في كمال الخشية، لا في كثرة الأعمال الظاهرة فقط.

والصحابة ساروا على أثره ﷺ في ذلك، فامتلأت قلوبهم مهابةً من الله، حتى صاروا يفرّون من الذنب الصغير فرارهم من النار.

 

خطر الاستهانة بالذنوب

قال العلماء:

 إنّ الاستهانة بالمعصية أعظم من المعصية نفسها، لأنّها تدلّ على ضعف تعظيم الله في القلب.
قال بعض السلف:

 "ربّ معصية أورثت ذلًّا وانكسارًا خيرٌ من طاعة أورثت عُجبًا واستكبارًا".

فالذنوب الصغيرة إذا اجتمعت أهلكت صاحبها، كما قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح:

"إياكم ومحقّرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه" [رواه أحمد والطبراني وصححه الألباني].

شبّهها النبي ﷺ بالناس الذين يجمعون الحطب شيئًا فشيئًا حتى توقد نارًا عظيمة، وهكذا الذنوب الصغيرة، يجتمع أثرها حتى تشتعل نارها في القلب.

الصحابة وتربية القلوب على المراقبة

من خصائص الصحابة أنهم ربّوا أنفسهم على مراقبة الله في السرّ والعلن.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

"حاسِبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا، وزِنوا أعمالكم قبل أن تُوزَن عليكم".

وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول:

"وددت أنّي كنتُ شعرةً في جنب عبد مؤمن".

هذه الأقوال تُظهر مدى تواضعهم وخشيتهم مع صلاحهم وإيمانهم العظيم، وهو ما يعلّمنا أنّ الخوف من الله لا يكون بسبب الذنب فقط، بل هو ثمرة معرفة الله حقّ المعرفة.

الذنوب الصغيرة طريق إلى الكبيرة

إنّ من أعظم الفتن أن تبدأ النفس بالتهاون في الصغائر، لأنّها تفتح الباب للكبيرات.

قال بعض السلف:

 "إنّ من استخفّ بالذنب أورثه اللهُ ذنبًا أكبر منه حتى يهلكه".

ولهذا كان الصحابة يغلقون باب الذنب من أوله، فلا يسمحون لأنفسهم بالتهاون أو التبرير، لأنّهم علموا أنّ الطريق إلى النار يبدأ بخطوةٍ صغيرةٍ نحو المعصية.

قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ [البقرة: 168].

فالشيطان لا يدعو الإنسان إلى الكبائر مباشرة، بل يجرّه بخطواتٍ صغيرةٍ متتابعة حتى يسقط في الكبيرة دون أن يشعر.

الشبهة والرد عليها

قد يزعم بعض الجهّال أن الذنب الصغير لا يُحاسَب عليه العبد أو أنه يُغفر بلا توبة، مستدلين بقول الله تعالى: ﴿إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ [النساء: 31].

وهذا فهمٌ ناقص؛ لأنّ معنى الآية أن الصغائر تُغفر باجتناب الكبائر مع التوبة والإكثار من الطاعات، لا أن يتساهل العبد فيها أو يُصرّ عليها. قال العلماء: الإصرار على الصغيرة يجعلها كبيرة.

وقد قال النبي ﷺ:

"ويلٌ للمصرّين، الذين يُصرّون على ما فعلوا وهم يعلمون" [رواه البخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني].

فالردّ على هذه الشبهة أنّ الاستهانة بالصغائر تُهلك كما تُهلك الكبائر، وأنّ الصحابة لم يفرّقوا في خشيتهم بين الصغيرة والكبيرة، لأنّ المعيار هو تعظيم الله في القلب لا حجم الذنب في الظاهر.

ثمرات الخشية من الصغائر

1)  طهارة القلب من الغفلة.

2)  دوام التوبة والرجوع إلى الله.

3)  حماية النفس من الكبائر، لأن من خاف الصغيرة لا يقع في الكبيرة.

4)  علوّ المنزلة عند الله، لأن الله يحب عبده الخائف الوجل.

5)  نور البصيرة، فكلما زادت المراقبة، زاد النور في القلب.

خاتمة

لقد كان الصحابة رضي الله عنهم يرون الذنب الصغير عظيماً، لأنهم رأوا الله عظيماً. خافوا من زلّة اللسان ونظرة العين، لأنهم عرفوا أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.

فمن أراد أن يكون على نهجهم فليستحِ من الله كما استحوا، وليخشَ الذنب ولو كان همسًا في القلب.

فالذنوب الصغيرة ليست في حقيقتها صغيرة، إذا نُظر إليها بعين الخوف من الله.

المصادر

1)مسند الإمام أحمد، حديث رقم 15859.

2)صحيح البخاري، كتاب الرقاق.

3)التوضيح لشرح الجامع الصحيح، ابن الملقن، ج29 ص547.

4)دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين، ابن علان الشافعي، ج1 ص239.

5)تفسير الطبري، تفسير آية (النور: 15).

6)تفسير ابن كثير، تفسير آية (النساء: 31).

7)الأدب المفرد للبخاري، باب في الإصرار على الذنب.